عمر غازي
في لحظة عابرة لا تُرى، رفع الشاب هاتفه ليلتقط صورة لوجبة لم يأكلها بعد، ثم كتب تعليقًا لم يشعر به، وأرفق هاشتاقًا لا علاقة له بالمكان، وفي مساء اليوم نفسه عاد إلى الشاشة لا ليقرأ، بل ليتحقق من أن أحدًا قد رآه، لم يكن جائعًا ولا ملهوفًا للكلمات، لكنه أراد أن يكون حاضرًا في عيون الآخرين، أن يُؤخذ رأيه، أن يُصفّق له أحد، أن يشعر بأنه موجود لأن أحدًا صفق.
عبادة الجماهير لا تبدأ من حب الظهور، بل من لحظة خفية نخشى فيها أن نُنسى، حيث يصبح الرأي مرهونًا برد الفعل، وتُقال الفكرة لأنها تُعجب، لا لأنها تُعبّر، ويتحوّل الحضور من أثر ناتج عن القيمة إلى نتيجة ناتجة عن التكرار، فلا نعيش أنفسنا بل نصبح مجرد بثّ مباشر لما يُتوقع منا أن نكون.
في دراسة نشرتها جامعة كاليفورنيا عام 2023، تبين أن 74% من المستخدمين النشطين يوميًا في المنصات التفاعلية يشعرون بتوتر عاطفي إذا لم يحصلوا على تفاعل كافٍ خلال الساعة الأولى بعد النشر، بينما أقر 61% منهم أنهم غيّروا آراءهم في مواضيع عامة فقط من أجل تقليل الهجوم وزيادة التفاعل، وهي نتائج توافقت مع تحليل أجرته جامعة أمستردام عام 2022 حول علاقة “السلوك الرقمي المتكيّف” بتراجع الشعور بالهوية المستقلة في الفئات العمرية بين 18 و29 عامًا.
وفي دراسة أخرى نشرتها جامعة أكسفورد عام 2022، تبيّن أن الاعتماد المفرط على الإعجاب والتفاعل الرقمي يترك أثرًا عكسيًا على العلاقات الواقعية، حيث أقر 53% من المشاركين بأنهم أصبحوا يشعرون بالرضا الاجتماعي عند تلقي التفاعل الرقمي أكثر مما يشعرون به عند تلقي التقدير المباشر من أصدقائهم أو عائلاتهم، وهي نتيجة أثارت قلق الباحثين حول تصاعد “الاستبدال العاطفي الرقمي” في العلاقات الإنسانية الأساسية.
إن أخطر ما تفعله هذه العبادة الصامتة أنها تُزيّف ملامحنا بالتدريج، إذ يصبح الرأي “محتوى”، والموقف “اتجاهًا”، والشعور “رد فعل قابل للمشاركة”، ثم نفقد القدرة على التمييز بين ما نقوله لأننا نؤمن به، وما نقوله لأننا نريد أن نُصفّق بعده، فلا نعرف هل هذه فكرتنا فعلًا، أم أنها فقط الصيغة التي تجلب الإعجاب في هذا التوقيت.
وقد أشار تقرير أصدرته هيئة الإعلام والاتصال في كوريا الجنوبية عام 2022 إلى أن المؤثرين الرقميين الذين تجاوزت حساباتهم مليون متابع يعانون بنسبة 67% من اضطراب “انفصال الشخصية الرقمية”، وهو اضطراب يجعل صاحبه يتحدث بلغة لا يستخدمها في حياته اليومية، ويعبّر عن مواقف لا يلتزم بها في الواقع، فقط لأن “الجمهور ينتظر”.
والسؤال هنا لا يتعلق بالمشاهير وحدهم، بل بكل من يكتب شيئًا ثم يعود بعد لحظات ليراقب هل أعجب أحدًا، وكل من يغير نبرة صوته على الهواء لأنه يعرف ما الذي يكسب الجمهور، وكل من يبتسم حين يجب أن يغضب، ويُصفّق حين يعرف أنه لا يقتنع، وكل من جعل حسابه يُغذيه الجمهور، لا ضميره.
هذا النوع من العبادة لا يحتاج سجودًا، بل يكفيه أن تضحّي بقناعتك قليلًا، أن تصمت عن رأيك مرة، أن تعتذر عن شيء لا تؤمن بأنه خطأ، أن تلبس رداءً لا يخصك لأنك تخشى ألا يعجبك أحد إذا ظهرت كما أنت، ثم تمضي السنوات وأنت لا تدري أنك لم تعد أنت، بل أصبحت فقط نسخة مقبولة جماهيريًا من شيء كنت تعرفه جيدًا يومًا ما.
ويبقى السؤال: هل نعيش كما نؤمن فعلًا، أم أننا فقط نؤدي دورًا يأخذه الناس على محمل الإعجاب؟ وهل تستحق التصفيقات المؤقتة أن نكتم لأجلها صوت أنفسنا الدائم؟ وإذا كانت النجومية تتطلب أن نفقد ملامحنا، فهل تستحق أصلًا أن نُسلّم لها وجوهنا؟
المصدر: الترند العربي