عمر غازي
لطالما أثار مفهوم الحظ الجدل بين الناس، فالبعض يعتقد أن الحياة حظوظ، وأن الناجحين عادة ما هم إلا أناس حالفهم الحظ وابتسم لهم القدر، بينما يعتقد آخرون أن الحظ لا علاقة له بالنجاح، وأن القدرة على انتهاز الفرص هي العامل الحاسم في تحقيق الإنجازات، ولكن، ما الذي تقوله الدراسات العلمية عن هذا الجدل؟ هل الحظ مجرد ضربة عشوائية من القدر، أم أنه يمكن أن يكون نتيجة للاستعداد والقدرة على اغتنام الفرص؟
تشير العديد من الدراسات العلمية إلى أن ما يُطلق عليه “الحظ” غالبًا ما يكون نتيجة لعوامل يمكن التحكم فيها. فوفقًا لدراسة أجرتها جامعة كولومبيا في عام 2016، وجد الباحثون أن الأفراد الذين يعتبرون أنفسهم “محظوظين” هم غالبًا أولئك الذين لديهم القدرة على التعرف على الفرص واستغلالها عندما تظهر.
في نفس السياق، يؤكد الكاتب مالكولم غلادويل في كتابه Outliers أن النجاح ليس مجرد حظ، بل هو نتيجة لمزيج من العمل الجاد والقدرة على استغلال الفرص التي تأتي في طريقنا. ويستشهد غلادويل بقصص نجاح شخصيات بارزة مثل بيل غيتس، الذي تمكن من استغلال فرصة الوصول إلى حواسيب نادرة في ذلك الوقت أثناء دراسته الثانوية، مما ساعده في بناء مهارات البرمجة التي قادته لاحقًا لتأسيس مايكروسوفت.
وتدعم الدراسات العلمية هذه الفكرة، فقد أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2013 أن الأفراد الذين يتبنون عقلية “النمو” ويؤمنون بأنهم قادرون على تحسين أنفسهم وتطوير مهاراتهم، هم أكثر عرضة لتحقيق النجاح، بغض النظر عن الحظ. الدراسة بيّنت أن هؤلاء الأشخاص يميلون إلى العمل بجدية أكبر، ويكونون أكثر استعدادًا لاستغلال الفرص التي قد تأتي في طريقهم.
تُعتبر مسألة الفائزين باليانصيب الذين يعودون للفقر والمليونيرات الذين يستعيدون ثرواتهم بعد الإفلاس من الأمور التي أثارت فضول الباحثين وعامة الناس على مر السنين، فالفائزون في اليانصيب قد يُعتقد أنهم نالوا حظًا فريدًا، لكن ما يحدث بعد الفوز يروي قصة أخرى، تشير الدراسات إلى أن معظم الفائزين باليانصيب يعودون إلى حياتهم السابقة أو حتى يفقدون ثروتهم بشكل أسرع مما كان يتوقع، وفي المقابل، هناك العديد من المليونيرات الذين فقدوا ثرواتهم ولكنهم استطاعوا العودة إلى النجاح والثراء مرة أخرى.
في دراسة أجريت عام 2010 من قبل جامعة فلوريدا، وُجد أن حوالي 70% من الفائزين باليانصيب يفقدون كامل ثرواتهم في غضون خمس سنوات من الفوز، ويعزو الباحثون هذا إلى ما يُسمى “صدمة المال السريع”، حيث يجد الأفراد الذين لم يتعلموا كيفية إدارة الثروات الكبيرة أنفسهم غير قادرين على التعامل مع هذه الأموال بذكاء، ما يؤدي إلى الإفراط في الإنفاق واتخاذ قرارات مالية غير مدروسة، كما أن الضغط الاجتماعي، الذي يأتي غالبًا من الأصدقاء والعائلة، يلعب دورًا في استنزاف الأموال. يضاف إلى ذلك قلة التوجيه المالي والافتقار إلى الخبرة في الاستثمار، مما يزيد من احتمالية العودة إلى الفقر.
على الجانب الآخر، وجدت دراسة من جامعة ستانفورد عام 2014 أن 80% من المليونيرات الذين فقدوا ثرواتهم تمكنوا من استعادتها في غضون عشر سنوات، وهؤلاء الأشخاص غالبًا ما يمتلكون سمات مشتركة مثل الإصرار، الخبرة، والتعلم المستمر من الأخطاء. في حين أن الخسارة قد تكون صادمة، إلا أن العديد منهم كانوا قد اكتسبوا مهارات وأساليب للنجاح لا تعتمد فقط على المال، بل على قدرتهم على التفكير الاستراتيجي وإعادة بناء أنفسهم.
عشرات القصص للناجحين تؤكد هذا التفسير، على سبيل المثال، توماس إديسون، الذي يُعتبر أحد أعظم المخترعين في التاريخ، لم يكن يعتمد على الحظ في نجاحه، بل على المثابرة والعمل الجاد، حيث ينقل عنه مقولة: “العبقرية هي 1% إلهام و99% عرق”.
من ناحية أخرى، أظهرت دراسة أجرتها جامعة كورنيل عام 2017 أن الأشخاص الذين يؤمنون بأن النجاح يعتمد بشكل كبير على الحظ يميلون إلى الفشل أكثر من غيرهم، حيث اظهرت الدراسة أن هذا الاعتقاد يؤدي إلى تقليل الدافعية للعمل الجاد والتخطيط، مما يحد من فرص النجاح، وهؤلاء الأفراد يكونون أقل رغبة في اتخاذ المخاطر واستثمار الفرص، لأنهم يعتمدون على الحظ بدلاً من العمل لتحقيق أهدافهم.
وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة هارفارد عام 2018، تم التأكيد على أن الأشخاص الذين ينسبون نجاح الآخرين للحظ فقط هم غالبًا أقل الأشخاص نجاحًا في حياتهم الشخصية والمهنية، فهذا الاعتقاد يمكن أن يعوق نمو الشخص وتطوره، ويقلل من فرص التعلم من التجارب الناجحة للآخرين.
ومن هنا، يتبين أن مفهوم الحظ ليس سوى انعكاس لجهودنا واستعداداتنا. فالذين يُعتبرون “محظوظين” هم في الحقيقة أولئك الذين يدركون قيمة الفرص ويستعدون لاستقبالها، فالحظ لا ينتظر أحدًا، بل هو نتاج لإرادة قوية واستعداد دائم، والأشخاص الذين يعلقون آمالهم على الحظ وحده غالبًا ما يتجاهلون أهمية العمل الجاد، والتخطيط الدقيق، والاستثمار الذكي للفرص، وعندما يفشلون، يلقون باللوم على الحظ بدلاً من البحث عن مكامن القوة والضعف في أنفسهم. فالحظ الحقيقي هو أن تكون مستعدًا، وتغتنم الفرصة عندما تأتي.