عمر غازي
يواجه الإنسان في كل مراحل حياته تحديات جديدة تتطلب منه قوة وصمودًا نفسيًا لمواجهة متغيرات الحياة، إلا أن ما نشهده اليوم من ارتفاع ملحوظ في حالات الهشاشة النفسية يشير إلى ظاهرة تستدعي البحث والتأمل، وهنا يأتي السؤال، هل نحن أمام جيل أكثر ضعفًا؟ أم أن متغيرات العصر فرضت علينا مواجهة نوع جديد من التحديات النفسية؟
الهشاشة النفسية، وفقًا لمنظمة الصحة العالمية (WHO)، تشير إلى “انخفاض القدرة على التكيف مع الضغوط اليومية والمرونة النفسية”، وتظهر هذه الحالة عندما يواجه الفرد صعوبة في التعامل مع الضغوط النفسية والعاطفية التي قد تبدو للبعض عادية، وتنعكس الهشاشة النفسية في أعراض مثل القلق المستمر، والاكتئاب، والشعور بالعجز، وتؤثر بالتالي على قدرة الفرد على ممارسة حياته اليومية بشكل طبيعي.
الهشاشة النفسية ليست ظاهرة وليدة اللحظة، بل هي نتيجة تفاعل معقد بين عوامل عدة، فبحسب دراسة أجرتها جامعة ييل عام 2017، أظهرت النتائج أن 45% من الشباب في الفئة العمرية بين 18 و25 عامًا يعانون من مستويات مرتفعة من القلق والاكتئاب، وهو رقم يفوق بكثير الأجيال السابقة.
لا ترتبط الهشاشة النفسية فقط بالتكنولوجيا، بل تتجاوز ذلك لتشمل البيئة الاجتماعية، والاقتصادية، وأحيانًا البيولوجية، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018 كشفت عن إسهام التغيرات الاجتماعية العميقة، مثل تفكك الروابط الأسرية وتراجع المجتمعات التقليدية، في زيادة عزلة الأفراد، وجعلتهم أكثر عرضة للهشاشة النفسية، ويميلون إلى العزلة وتجنب المواجهة، مما يجعلهم أكثر عرضة للإصابة بمشكلات نفسية خطيرة مثل القلق والاكتئاب.
لكن الأمر لا يتوقف عند القلق والاكتئاب، فقد أظهرت دراسة من جامعة كامبريدج عام 2019 أن الأشخاص الذين يعانون من الهشاشة النفسية يكونون أكثر عرضة للإصابة بالإدمان على المخدرات والكحول، حيث وُجد أن 60% من حالات الإدمان ترتبط بشكل مباشر بمستويات عالية من الهشاشة النفسية وعدم القدرة على التعامل مع الضغوط الحياتية، ويزيد هذا الخطر بشكل خاص في بيئات تعاني من ضغوط اقتصادية واجتماعية كبيرة.
الأمر لا يتوقف عند الإدمان فحسب، بل تمتد تداعيات الهشاشة النفسية إلى مشاكل أكبر، مثل ارتفاع معدلات الانتحار، ففي دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية عام 2020، وُجد أن ما يقرب من 800,000 شخص ينتحرون سنويًا على مستوى العالم، ومعظم هؤلاء الأشخاص يعانون من أشكال متقدمة من الهشاشة النفسية، التي تجعلهم غير قادرين على التكيف مع ضغوط الحياة.
الهشاشة النفسية أيضّا يمكن أن تدفع الأفراد أيضًا إلى الانخراط في سلوكيات عدوانية وجنائية، بحسب ما أظهرته دراسة من جامعة ستانفورد عام 2020 حيث تبين أن الأفراد الذين يعانون من مستويات مرتفعة من الهشاشة النفسية يكونون أكثر عرضة للانخراط في أعمال عنف وجريمة، وذلك أن عدم القدرة على التعامل مع الضغوط النفسية بشكل صحي يمكن أن يدفع البعض إلى التعبير عن إحباطهم بطرق عدوانية.
لكن، هل هذه الهشاشة النفسية حتمية؟ أم يمكننا تعزيز مرونتنا النفسية لمواجهة تحديات العصر؟ هنا يأتي دور الوعي والتدريب النفسي، حيث أظهرت دراسة من جامعة أكسفورد عام 2021 أن الأشخاص الذين يشاركون في برامج تدريبية لتحسين الوعي الذاتي وإدارة الضغوط، أظهروا قدرة أعلى على التعامل مع الأزمات وتجاوزها بنجاح، وهذه النتائج تعكس أهمية الاستثمار في الصحة النفسية كجزء أساسي من بناء مجتمع قوي ومتماسك.
يمكن القول إن الهشاشة النفسية ناتجة عن تفاعل معقد بين البيئة والعوامل الفردية، لكنها ليست مصيرًا لا مفر منه، بزيادة الوعي، والتدريب على التعامل مع الضغوط، وإعادة بناء الروابط الاجتماعية، يمكننا أن نعيد بناء قوتنا النفسية، ونتخطى التحديات التي يفرضها علينا العصر، فما يجعل الإنسان قويًا ليس غياب التحديات، بل القدرة على النهوض في وجهها، وتحويلها إلى فرص للنمو والتطور.