عمر غازي
يعيش الإنسان في هذه الدنيا كما لو كان سيخلد فيها، فيلهث وراء الدنيا ومتاعها الفاني، متناسيا أن الرحلة إلى القبر قادمة لا محالة، ولكن ماذا لو أدرك كل منا حقًا أنه “المقبور التالي”؟ ماذا لو عاش كل يوم على أنه قد يكون الأخير؟
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018، أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يفكرون بانتظام في الموت يميلون إلى اتخاذ قرارات حياتية أكثر حكمة وأخلاقية، حيث كشفت الدراسة أن التفكير في الموت يعزز من الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين ويقلل من التعلق بالأشياء المادية، وهؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكونون أكثر تسامحًا وأقل ميلًا إلى الغضب، حيث يدركون أن الحياة قصيرة وأن النزاعات الدنيوية لا تستحق العناء.
الحكماء والفلاسفة عبر التاريخ أكدوا كثيرًا عن أهمية تذكر الموت، يقول سقراط: “الفلسفة هي استعداد للموت”، فهو يرى أن الحكمة تكمن في أن يعيش الإنسان حياته مستعدًا للموت في أي لحظة، وليس فقط في نهايتها، وهذا الاستعداد يدفع الإنسان نحو الزهد والتخلي عن التعلق المفرط بالدنيا، ويؤكد الفيلسوف الروماني سينيكا على هذا المعنى بقوله: “من يعتقد أنه سيعيش إلى الأبد، سيهدر حياته، لكن من يدرك أنه سيعيش لفترة قصيرة، سيجعل كل لحظة لها قيمة”، وفي الحديث النبوي عن عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: “كن في الدنيا كأنك غريبٌ، أو عابر سبيلٍ”، وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر الـمساء، وخُذْ مِن صحتك لِمرَضِك، ومن حياتك لِمَوتك”
قصص التاريخ تزخر بأمثلة لأشخاص أدركوا حتمية الموت وعاشوا حياتهم بناءً على هذا الإدراك، فكان الخليفة عمر بن عبد العزيز يُعرف بورعه وزهده الشديدين، حيث يذكر المؤرخون أنه كان دائمًا يتذكر الموت، وكان هذا التذكر يدفعه إلى العدل والرحمة وحسن الخلق، ومما اشتهر عنه قوله: “الموت أول منزلة من منازل الآخرة وآخر منزلة من منازل الدنيا، فمن زهد في الدنيا هانت عليه”.
وهنا يأتي السؤال: كيف يمكن أن يؤثر هذا الإدراك على حياتنا اليومية؟
إذا عاش الإنسان كل يوم وكأنه آخر يوم في حياته، ستصبح لديه رغبة أكبر في تحسين علاقاته مع الآخرين، وتقديم الخير دون انتظار مقابل، وسيكون أكثر حذرًا في كلامه وأفعاله، وأكثر تسامحًا مع الغير، فالزهد في الدنيا ليس تخليًا عن الحياة، بل هو أسلوب حياة يجعل الإنسان أكثر وعيًا بقيمة الوقت والفرص التي تمنحه إياها الحياة.
تشير الدراسات النفسية الحديثة إلى أن التفكير في الموت يمكن أن يحسن من الصحة النفسية، ففي دراسة نشرتها مجلة “Journal of Experimental Social Psychology” عام 2019، أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يتأملون في الموت بشكل منتظم يشعرون بقلق أقل تجاه الحياة، ولديهم قدرة أكبر على التعامل مع الضغوط، وهؤلاء الأشخاص يكونون أكثر سعادة في حياتهم اليومية لأنهم يعيشون كل لحظة بوعي تام، مدركين أنها قد تكون الأخيرة، وهو ما يتوافق مع مقولة الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر “الفهم الحقيقي للحياة يأتي من تذكر الموت”.
عندما يدرك الإنسان أنه “المقبور التالي”، ستتغير نظرته للحياة، لن يلهث وراء المال والشهرة والسلطة، بل سيسعى لتحقيق الذكر الحسن وترك أثر طيب يخلد بعد رحيله، وهذا الإدراك لحقيقة الموت لاشك سيكون دافعًا قويًا للإنسان ليعيش قدر المستطاع حياة فيها نصيب من الورع، والزهد، والحلم، حياة أكثر صفاءً وسلامًا، تجعلنا نترك وراءنا إرثًا من الحب والخير يبقينا أحياء بعد الرحيل، فكما ورد في الحديث النبوي: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”.