عمر غازي
لا أبالغ عندما أقول أني عشت عمري الماضي بأكمله أخشى من وقوع ما أكتب عنه الآن، وكانت السنوات الخمس الأخيرة الأكثر خوفاً في نفسي، فمع تقدم والدي رحمه الله وأسكنه فسيح جناته في العمر وإصابته بمرض (باركنسون)، وعودته إلى مصر بعيدا عني، وكثرة ذكره للموت، كانت تزدادُ مخاوفي وآلامي، فما تخيلت يوماً العيش بعده، ولا تمنيت فيما مضى أن يأتي اليوم الذي أنعاه أوأستقبل فيه التعازي.
ولكن قضاء الله نافذ لا محالة، وما لنا إلا أن نصبر ونحتسب، وننتظر أمر الله لحين ملاقاته في الدارالباقية، والحديث عن أبي حديث ذو شجون، وذو أثر كبير في نفسي لن يمحوه سوى مفارقتي لهذه الحياة الفانية، فأنا أكتب وأشعرأن مشاعري ووجداني ينزفان لحناً حزيناً، مداده عاطفة جياشة من الحب الذي مهما عبرت عنه سأفشل، ومن الحنين والشوق الذي لو تركت له العنان لمت من نيران لوعته، ومن الاعتزاز والفخر به الذي هو له أهل ومستحق.
عندما أكتب عن والدي الشيخ ساعد عمر غازي رحمه الله، فلا يمكن أن أتجاهل الحديث عنه كأب، جمع بين الحنان الجارف، والحزم البالغ، وهاتين الصفتين قد تبدوان على النقيض لكنه كان يحمل قلب طفل، فبقدر ما كان حازماً، وبقدر ما كنت طفلاً مشاغباً كثير المتاعب لأهلي، كان حنوناًعطوفاً، للحد الذي كانت تندفع دموعه الحارة بغزارة وحنان غير معهود لمن يراه في لحظات ومواقف أخرى جادة وصارمة، ولا يمكن أن أنسى هذا الواقعة وربما تركت الكثير من الأثر الإيجابي في نفسي حتى وقتنا هذه، جعلتني أتعلق بهذا القلب العطوف، وأسامحه أبد الدهر، فعندما عاقبني في أحد المرات على خطأ ارتكبته ولا أذكره الآن، تألمت وبالغت في إظهار الألم، فما كان منه رحمه الله إلا أن بكى بكاء شديدًا، وجلس بجانبي يطمأن علي وأنا وقتها كنت أزيد التمارض وإظهار الألم، لكن هذا الموقف على عفويته حفر في قلبي الكثير من المعاني والمشاعر التي لا يمكنني تجاوزها بحال من الأحوال.
ومن المواقف الأخرى التي أدركتها وفهمتها على نحو متأخر بعد تجاوزي لعنفوان المراهقة والشباب هي أنه رحمه الله كانت عندما تأتيه شكاوى مني وما أكثرها لم يكن يناقش أو يحقق في الشكوى ومن المخطئ أو المصيب، وإنما كان يعتذر لولي أمر الطفل الآخر أو للمعلم، ويطلب منه ما يرضيه، ويطلب مني أيضا الاعتذار دون نقاش لأصل المشكلة، ويبتعد عن الدخول في مهاترات الأطفال والصغار، وفي كثير من هذه المواقف كنت أحسب أنني لم أخطئ وكنت أغضب من والدي جداً وأرى ما يفعله ظلم لي، وانهزامية، وانكسار، وكنت أتوقع منه موقفاً غير ذلك، وأنا أعرف صلابته وقوته وجرأته في الحق، ولكن عندما كبرت ونضجت، علمت أن هذه هي شيم الكبار ممن يترفعون عن الولوج في هذه السفاسف، ويسعون إلى إنهاء أسباب المشاحنات والبغضاء.
كان رحمه الله في سنواته الأخيرة كثيرا ما يقول لي “استفد مني وأنا ما زلت حيّاً، لا تنتظر لحين موتي”، وكانت هذه الكلمات كثيراً ما تترك لدي تأثيراً كبيراً، لكن في الحقيقة لم أدرك معناها حق الإدراك إلا برحيله، وأنا الآن أستذكر المواقف والمعاني التي تركها، وتركت آثارها في نفسي وعقلي وفكري ووجداني بدأت أدرك حقيقة ما كان يعنيه.
مهما كتبت وتحدثت عن والدي فلن أستطيع أن أوفيه حقه لا في صفحاتٍ ولا في كتبٍ أو حتى مجلدات، فالحديث عنه يستدعي أحاديث وأحاديث، فلم يكن لي بمثابة الأب، والمعلم، فحسب، بل كان في الواقع هو الصديق الحقيقي، الذي لا أشعر براحة في الحديث عما يجول في ذهني إلا معه، أحاديثنا دائما في البعد والقرب كانت أحاديث ممتدة لا تنتهي، في نقاشات فكرية ومعرفية وعلى الرغم من أن آرائنا في غالب الأحيان على غير اتفاق، إلا أنه رحمه الله لم يكن بالذي يمل من النقاشات العلمية المستفيضة، وكنت إذا أحببت أن ألفت نظره لمسألة أو أتعمق في جوانبها استخدم حيلة كانت تنجح على الدوام وهي استنفار فضوله البحثي، فكنت أطرح له اسم مفكر لا يعرفه وامتدحه، أو كتاب ما، أو نظرية معينة، وينتهي النقاش على ذلك، وأنا أعلم أنه لن يهدأ له بال إلا أن يغوص في جوانب هذا الموضوع ويتعمق فيه ويأتيني بالزبدة الشافية الوافية التي لا أحتاج بعدها إلى مزيدٍ من العناء في التحقيق والتنقيب.
وبعيداً عن عاطفة الابن تجاه أبيه الحبيب إلى شغاف قلبه، فإنني في الأسطر التالية أعرض بعضاً مما تعلمته منه كمعلم، ورفيق درب، وأب روحي، وصديق، على مدار 35 عامًا مضت، وهو عمر ليس بالقليل، صاحبته فيه من عنفوان شبابه إلى هرم الكهولة، وما صاحب ذلك من حقب زمنية مختلفة شهدت تحولات سياسية واجتماعية وفكرية في دائرته القريبة والأوسع، ويمكن إيجاز أبرز هذه الدروس في الآتي:
- إيمانك بقدرتك على الفعل ستؤدي حتماً إلى نجاحك
فالوالد رحمه اختار الطريق الأصعب في طلبه للعلم الشرعي وهو علوم الحديث وعلوم الرجال والتحقيق والتخريج، وقد اعتمد في شقه طريقه رغم صعوبته البالغة على نفسه بالتعلم الذاتي، من بطون الكتب، وأمهات المراجع، وهذا الطريق طريق وعر خصوصاً فيما مضى قبل ظهور الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة، وظهور الوسائط المتعددة، فهو طريق لا يجيد السير فيه إلا من رزقهم الله الصبر، والجلد والنفس الطويل، والذهن المتقد، ولعل ما يدعو إلى الدهشة أن الوالد رحمه الله على قدر ما كانت لديه هذه المهارة في الولوج إلى أدق المسائل العلمية وبذل الوقت الطويل دون كلل أو ملل لتحريرها على الوجه الذي يحقق المعايير العلمية السليمة، فإنه كان يتوقف عند بعض الأمور ويرفض رفضاً تاماً محاولة تعلمها متذرعاً بعدم قدرته على ذلك مثل قيادة السيارات، وهو الذي لم يحاول يوماً من الأيام حتى مجرد التفكير في تعلمها، وكنت دائما ما أناقشه في هذا الموضوع تحديداً وأقول له أنت إذا أردت أن تفعلها ستفعلها، ولكنك ما دمت وضعت في عقلك هذه الفكرة فلن تفعل، فأنت تستطيع أن تفعل المعجزات مقارنة بهذه المهارة البسيطة، ومما يدل على ذلك أنه تعلم استخدام الكمبيوتر وبرامج التحرير والكتابة في عمر متأخر من حياته لحاجته لها حتى صار لديه من الخبرة فيها الشيء الكثير.
2- تواضعك لن يعيق الآخرين من معرفة قدرك وقدراتك
وهذا الدرس من أهم دروس الحياة التي تعلمتها من أبي، فعلى الرغم من عدم حبه للظهور، وكانت هذه طبيعة جبل عليها، فكان خجولاً بطبعه لا يطمح إلى تصدر المجالس، أو أخذ زمام الحديث، وعندما يدعى إلى مناسبة يؤثر الجلوس بعيداً عن صدر المجلس، لا يسعى لأن يقول هئنذا، ومن داخله أيضا لا يرى أنه عنده شيء كبير يستحق أن يمتاز به عن غيره، وهذه المسألة تحديداً كثيراً ما ناقشتها معه، وقلت له على فرض أن كلامك صحيح قارن نفسك بمن يتصدر الآن ستجدك تفوقه علماً، وخبرة، إذن أنت أجدر، فكان يضحك رحمه الله ويقول لي “أنا أبوك لازم تقول كده”، لكن المثير للاهتمام في هذه النقطة تحديداً أن الإنسان الذي لديه حظ من العلم أو الخبرة أو الفهم، يفرض نفسه على من هم أهل لذلك، وأهل العلم والنبل والذكاء يعرفون منازل الناس ويقدرونهم، فتعلمت مما شاهدته وعايشته أن المرء لا يحتاج إلا أن يستعرض عضلاته ويتسلق على أكتاف الآخرين ليظهر، لأن من يفعل ذلك سيسقط على عنقه في النهاية ولن ينفعه أحد، والمشاهد دائما من أحوال العظماء المغمورين في كافة المجالات ممن لم ينصفوا في حياتهم بالقدر الذي يستحقونه فإن اعتبارهم يرد إليهم ولو بعد حين، وتبقى ذكراهم وسيرتهم نبراساً يستضاء به.
3- التسرع، وركوب الموجات، ليس من شيم الراسخين في العلم
في الحوادث الجسام، والنوازل المعاصرة، والأمور الخافية يلجئ الطلاب إلى أساتذتهم ومشايخهم، ويتصدر المشايخ والأساتذة المشهد للفتيا والرأي، وكأي شيخ أو طالب علم ينشد فيه من يعرفه المعرفة والتوجيه، كان يعمد إليه الكثير من طلبة العلم لاستطلاع رأيه، أو طلب الفتيا، وكان رحمه الله كثيراً أو غالباً ما يطلب إمهاله وقتاً للرجوع إلى المسألة وبحثها والوقوف على أقوال أهل العلم وتحريرها ثم الرد، وفي بعض المرات عاتبته وقلت له سيظن السائل أنك لا تعلم، وأنا من أنا أستطيع أن أجيبه عليها، ولم يكن يلقي بالاً بهذه الملاحظة، وظل على ممارسته، يغيب لبعض الوقت، ثم يحرر الرد الشافي الوافي، وهذا المنهج المتريث المرتكز على أعمدة العلم، بعيدا عن العواطف، وركوب الموجات، ومسايرة “الترند”، ظهرت معالمه في حدثين جللين الأول مع أحداث 11 سبتمبر في الوقت الذي رأيت من حولي الكثيرون ممن يهللون فرحين غير مدركين لخفايا الأمور، بينما لم ينجرف إلى هذه النظرة الضيقة إطلاقًا، والحدث الآخر هو اندلاع ثورة 25 يناير وما صاحبها من سيولة سياسية لدى التيار السلفي دفعت الكثيرين لعد مراجعات تراجعوا عنها لاحقاً لكنه ظل ثابتاً ينظر إلى العالم حوله بنظرة أكثر بعداً واتساعاً.
4- التسامح من شيم الأشخاص النادرين
من يعرف الوالد رحمه الله حق المعرفة يعرف صلابته وجرأته، ولكن ما لا يعرفه البعض منهم مدى قدرته المدهشة على التسامح بالقدر الذي كان يدهشني ولا يزال، فمهما كانت حدة الخلافات وأسبابها، فإنه يسامح لحد النسيان التام مع مرور الأيام، ويعفو إلى الحد الذي يشعرك بأن هذا الماضي لم يكن، وطيبة القلب هذه الذي طالما شبهتها بالأطفال كان يصعب عليّ أحيانا فهمها، لاسيما أنها تبدو على النقيض مع طبيعته الحازمة شديدة الصرامة في أوقات عديدة، ولا يمكن أن أنسى بكاؤه الحار على رحيل صديق قديم كانت قد انتهت الأمور بينهما إلى خلاف علمي وفكري شديد، عايشت تفاصيله في طفولتي، ولفرط حبي للوالد وتعلقي به، كنت أعادي على نحو متطرف كل شخص يغضبه أو يغضب هو منه، لكنني راجعت نفسي وتوقفت، عندما عايشت هذه المواقف ورأيت كيف يعفو ويسامح ويصفو، فوالله ما رأيته بكى بكاء شديدًا على فراق أحد بعد جدتي رحمها الله إلا على هذا الرجل الذي كنت أحسب أنه سيفرح أو على الأقل لن يلقي لرحيله بالاً، وكنت قد راجعته رحمه الله في هذه الواقعة التي مرت عليها سنوات طويلة، قبيل أسابيع قليلة من وفاته، لكن أبي رحمه الله في تلك المكالمة لم يذكر لي إلا الجانب الإيجابي من شخصيته وذكاءه ونباهته بكثير من التأثر البادي في حديثه.
وختاماً، أكون كاذباً إن قلت أني حتى هذه اللحظة قد استوعبت فراقه، ولعمر الله أشعر وكأنني عشت بعده عمرًا أكثر مما عشته في حضوره، فالأيام باتت تمضي متثاقلة بطيئة، تمر مرور الأعوام والسنون العجاف، أسأل الله أن يلهمني الصبر والسلوان، وأن يربط على قلبي لحين لقياه في الدار الآخرة، وأن يسكنه فسيح جناته ويغفر له وأن يتقبله في الصالحين.