عمر غازي
في ظل التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي تشهدها منطقتنا العربية، يبرز التساؤل الدائم حول مفهوم “العروبة” وماهيتها، وهل العروبة تعني الانتماء العرقي فقط؟ أم أنها مظلة أوسع تشمل الثقافة والتراث المشترك، واللغة الواحدة؟ هذه الأسئلة تحيلنا إلى تأملات متأنية لمفهوم العروبة في ظل تعدد الأعراق والقوميات والأصول الثقافية داخل المجتمعات التي تحمل هذا الوصف.
تتعالى الأصوات في الآونة الأخيرة بحصر مفهوم العروبة في الانتماء العرقي للأصول العربية، لكن الحقيقة أوسع من ذلك، في رأيي الشخصي فالعروبة ليست مجرد نسب أو دماء تتدفق في العروق، بل هي هوية ثقافية وحضارية تجمع تحت مظلتها شعوبًا متعددة الأصول والثقافات، فاللغة كعنصر أساسي، تلعب دورًا محوريًا في توحيد هذه الشعوب، حيث تعتبر الوسيلة الأساسية للتواصل والتعبير عن الهوية، فالثقافة المشتركة، من أدب وفن وموسيقى، تساهم أيضًا في تعزيز هذا الانتماء وتجعل من العروبة مفهومًا يتجاوز الحدود العرقية.
في دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2017، أظهرت النتائج أن اللغة تلعب دورًا أساسيًا في تشكيل الهوية الثقافية، حيث وجدت أن 75% من المشاركين يرون أن اللغة العربية هي العنصر الرئيسي في تعزيز الشعور بالعروبة، وهذه الظاهرة ليست مقتصرة على العالم العربي فقط، فالهويات المشتركة التي تُبنى على أساس اللغة يمكن أن تُرى في مناطق أخرى من العالم، فعلى سبيل المثال، في منطقة أمريكا اللاتينية، تلعب اللغة الإسبانية دورًا رئيسيًا في تعزيز الهوية الثقافية المشتركة بين دول مثل المكسيك، وكولومبيا، والأرجنتين، رغم التعدد العرقي داخل كل بلد، حيث وجدت دراسة أجريت في جامعة بنسلفانيا عام 2018 أن 80% من المواطنين في هذه الدول يشعرون بانتماء ثقافي مشترك يعزز من تواصلهم وتفاهمهم، وذلك بفضل اللغة المشتركة، أما في الهند، تُعتبر اللغة الهندية أيضًا عنصرًا محوريًا في توحيد الدولة متعددة الأعراق والثقافات، ورغم التنوع اللغوي الكبير في الهند، حيث توجد عشرات اللغات المحلية، إلا أن اللغة الهندية والإنجليزية تشكلان لغتين رئيسيتين للتواصل وتعزيز الهوية الوطنية، حيث أظهرت دراسة نشرتها مجلة “Journal of South Asian Studies” عام 2019، أن اللغة الهندية تساعد في تجاوز الفجوات العرقية والثقافية، مما يعزز من الوحدة الوطنية.
الدول العربية، بدورها، ليست متجانسة تمامًا من حيث الانتماء العرقي، فمثلاً، دول شمال إفريقيا تضم مكونات قبطية، وأمازيغية، ونوبية، وعربية، بينما دول المشرق العربي تحتوي على خليط من العرب، والأكراد، والأرمن وغيرهم، وحتى اليمن والدول الخليج العربي التي تعد أصل العرق العربي تضم مواطنين من أعراق مختلفة كالبلوش والهوسا والفلاتة والروهينجا والقوقازيون وغيرهم.
نجد نماذج مشابهة لهذا التنوع في الهوية في دول مثل الهند والولايات المتحدة، ففي الهند، تتعايش أكثر من 2000 مجموعة عرقية معًا، ولكل منها لغتها وثقافتها الخاصة، لكن الهوية الهندية تجمعهم في إطار واحد، والولايات المتحدة أيضًا، كأمة مهاجرين، تحتضن تنوعًا كبيرًا من الأعراق والثقافات، ومع ذلك، توجد هوية أمريكية مشتركة تتجاوز هذا التنوع.
في ظل هذه التعقيدات، يظهر مفهوم الانتماء في مسارات متعددة ومتوازية، فالفرد قد يشعر بالانتماء إلى هويته العرقية، وفي الوقت نفسه يعتز بثقافته العربية، وهذه المستويات المتنوعة أو المسارات المتوازية من الانتماء لا تتعارض بالضرورة، يشير المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد إلى مفهوم “الهوية المركبة”، حيث يمكن للفرد أن ينتمي إلى أكثر من هوية ثقافية في آن واحد، هذا المفهوم يعكس واقع العروبة الحديثة، حيث يمكن للأفراد أن يكونوا عربًا ثقافيًا، مع الاحتفاظ بانتماءات عرقية أو دينية أخرى.
العروبة، بوصفها حاضنة ثقافية، تقبل تعدد الأعراق والثقافات، التي تجمعها قواسم مشتركة تتعدى الـ50% على الأقل، وهذا التجمع الثقافي يتمثل في اللغة المشتركة، والتراث الأدبي والفني، والقيم الاجتماعية المشتركة، ويمكن مقارنة هذا الوضع بالاتحاد الأوروبي، الذي يجمع دولًا متعددة الثقافات وحتى اللغات تحت إطار واحد، يرتكز على قيم مشتركة.
ولعل أكبر التحديات التي نواجهها هو تصاعد النعرات الطائفية لتأجيج هذا الصراع الهوياتي من جهة، ومن جهة أخرى هناك شعور بالتهميش له ما يبرره من بعض الأقليات العرقية التي تشعر بأن الهوية العربية المفروضة عليها تتجاهل موروثها الثقافي والعرقي الخاص، مما يثير مشاعر الغبن وربما العداء، وهذه المشاعر يمكن أن تؤدي إلى تصاعد التوترات والانقسامات داخل المجتمعات العربية، مما يبرز الحاجة إلى نهج شامل يتبنى التنوع الثقافي والعرقي كجزء لا يتجزأ من الهوية العربية، مع احترام كافة الخصوصيات لكل الأقليات العرقية.
المصدر: الترند العربي