عمر غازي
في كل مرة يُطرح سؤال الهوية في العالم العربي، ينقسم الناس بين من يرى العروبة انتماءً لغويًا وثقافيًا، ومن يحصرها في العرق والنسب، وبين من يعتبر أن دول الشام ومصر والمغرب العربي ليست عربية بالكامل، بل تحمل هويات أخرى موازية، ولعل هذا الجدل ليس جديدًا، لكنه تصاعد في العقود الأخيرة مع تصاعد النزعات القومية والهوياتية في المنطقة، مما جعل التساؤل أكثر إلحاحًا: من هم العرب؟ وهل الهوية العربية حصرية أم أنها منظومة ثقافية أوسع مما نتصور؟
التاريخ يخبرنا أن العروبة لم تكن يومًا محصورة في العرق، فمنذ فجر الإسلام، لم يكن الانتماء العربي قائمًا على النسب، بل على اللغة والثقافة، حيث انضمت شعوب فارس وبلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا إلى الهوية العربية عبر اللسان العربي الذي أصبح لغة العلم والسياسة والتواصل، ووفقًا لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2021، فإن 72% من الأفراد في المجتمعات متعددة الثقافات يعرّفون أنفسهم بهويات مركبة، أي أنهم لا يرون هويتهم محصورة في بُعد واحد، وهذا ما يعكس طبيعة المجتمعات العربية التي نشأت على تعدد الثقافات والأعراق منذ قرون.
لكن الإشكالية تظهر عندما يتم التعامل مع الهويات وكأنها متعارضة، فالبعض يرى أن الأمازيغي لا يمكن أن يكون عربيًا، أو أن الكردي لا يمكن أن يكون جزءًا من الهوية الإسلامية الجامعة، بينما في الواقع، هذه الهويات ليست متناقضة، بل متداخلة ومتكاملة، فاللغة العربية كانت وما زالت الرابط الأساسي الذي وحّد المجتمعات العربية، لكنها لم تلغِ الخصوصيات الثقافية الأخرى، فمثلاً، الأندلس كانت نموذجًا لحضارة عربية إسلامية، لكنها احتضنت ثقافات متعددة من العرب والبربر والإسبان واليهود، وهذا التنوع كان سر قوتها، لا سببًا لضعفها.
بحسب تقرير صادر عن منظمة اليونسكو عام 2022، فإن الدول التي احتضنت تعدد الهويات الثقافية استطاعت تحقيق استقرار اجتماعي أعلى بنسبة 40% مقارنة بالدول التي حاولت فرض هوية واحدة وإقصاء باقي المكونات، فمصر على سبيل المثال تحمل في طياتها هويات فرعونية وقبطية وعربية وإسلامية، والمغرب العربي يجمع بين الهوية الأمازيغية والعربية، وهذه التعددية لم تمنع هذه الشعوب من أن تكون جزءًا أصيلًا من العالم العربي.
المثير للاهتمام أن بعض الدول التي تروج لأن أزماتها الاقتصادية والسياسية تعود إلى “الهوية العربية”، تتجاهل أن المشكلة ليست في الهوية بحد ذاتها، بل في الفشل الإداري والاقتصادي، فهناك دول مثل اليابان وسويسرا لا تملك ثروات طبيعية ضخمة لكنها استطاعت بناء اقتصادات قوية، بينما دول أخرى تزخر بالموارد الطبيعية مثل فنزويلا وإيران تعاني من أزمات خانقة بسبب سوء الإدارة والفساد، فليس الانتماء العربي هو ما يعطل التنمية، بل السياسات التي تكرس الفشل بدلًا من احتضان التنوع وتحويله إلى مصدر قوة.
في العصر الحديث، هناك اتجاهات قومية تحاول اختزال الهوية في بُعد واحد، سواء كان عربيًا خالصًا أو أمازيغيًا أو كرديًا أو حتى إسلاميًا، وهذا يؤدي إلى نزاعات لا معنى لها، بينما الأصل أن يتم التعامل مع الهوية كمنظومة متعددة الأبعاد، يمكن للفرد أن يكون عربيًا ومصريًا ومسلمًا في آنٍ واحد، دون أن يشعر بأن هناك تناقضًا، فكما قال الفيلسوف أمارتيا سين: “الهوية لا يجب أن تكون قيدًا، بل نافذة نطل منها على العالم”.
السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل يمكن للعالم العربي أن يتجاوز هذه الخلافات حول الهوية، ويتبنى مفهومًا أكثر مرونة وشمولية يسمح لكل فرد بأن يكون جزءًا من هوية أوسع دون أن يُجبر على التخلي عن جذوره؟ وهل يمكن أن نستفيد من تجارب الأمم الأخرى التي احتضنت تعدد الهويات وحولته إلى مصدر قوة بدلًا من أن يكون سببًا للصراع؟
المصدر: الترند العربي