قوة التسامح

عمر غازي

في عام 1990، عندما خرج نيلسون مانديلا من السجن بعد 27 عامًا، وقف أمام حشد كبير ليعلن عن عفو شامل ضد أولئك الذين اضطهدوه، كان بإمكانه أن يدعو للانتقام أو يدع الماضي يتحكم في المستقبل، لكنه اختار طريقًا آخر، طريق التسامح الذي لا يعني النسيان، بل يعني تحويل الألم إلى درس، واستخدام التجربة كوسيلة لإعادة بناء وطن مزقته الكراهية.

هذا الموقف لم يكن مجرد لحظة إنسانية استثنائية، بل هو مثال حي على قوة التسامح الواعي، حيث إن التسامح الذي لا يُرافقه وعي وذاكرة يتحول إلى استسلام، بينما التسامح الذي يستند إلى فهم التجربة يحول الألم إلى أداة لبناء مستقبل أفضل، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2023، فإن الأفراد الذين يمارسون التسامح مع الآخرين يتمتعون بصحة عقلية أفضل ويعانون من أعراض أقل للقلق والاكتئاب.

العلاقات الإنسانية، سواء كانت شخصية أو مهنية، تحتاج إلى هذا النوع من التسامح العميق، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة كاليفورنيا عام 2019 أن العلاقات التي تُبنى على التسامح مع الاحتفاظ بالذاكرة تكون أكثر استقرارًا بنسبة 50% مقارنة بتلك التي تعتمد على التسامح الأعمى أو الغضب المستمر، لأن التسامح الواعي يعزز الثقة ويقلل من احتمالية تكرار الأخطاء، كما أنه يساعد في بناء جسور تفاهم قوية بين الأطراف.

لكن هل التسامح يعني نسيان الماضي؟ بالتأكيد لا، الذاكرة ليست عبئًا بل أداة، عندما تُستخدم بشكل صحيح، فهي تُجنبنا الوقوع في الأخطاء ذاتها وتُعزز من وعينا بالمواقف التي مررنا بها، التسامح ليس تنازلاً عن حقوقنا، بل هو إعلان استقلال عن الكراهية التي تقيد أرواحنا، الحكيم يتعلم من الماضي لكنه لا يتركه يسيطر على حاضره ومستقبله.

إذا نظرنا إلى المجتمعات التي استطاعت تجاوز صراعاتها التاريخية، سنجد أن التسامح الواعي كان أساسًا لتلك النجاحات، جنوب إفريقيا مثال على ذلك، حيث اختارت قيادة البلاد طريق المصالحة بدلاً من الانتقام، وقامت بتأسيس لجان الحقيقة والمصالحة التي لم تسعَ لمحو الماضي بل لمواجهته، مما ساعد في بناء مجتمع متماسك يعتمد على فهم الدروس المستفادة من الأخطاء السابقة.

التسامح لا يعني فقط الصفح عن الآخر، بل هو وسيلة لتحرير النفس من القيود العاطفية التي تفرضها الكراهية، إنه أداة لتوجيه ذكرياتنا نحو تحقيق النمو الشخصي والاجتماعي، السؤال الحقيقي الذي يجب أن نطرحه هو: كيف يمكننا أن نسامح دون أن ننسى؟ وكيف نحول تلك التجارب إلى قوة تدفعنا للأمام بدلاً من أن تعيقنا؟

التسامح الواعي هو ما يجعلنا قادرين على العيش بسلام مع أنفسنا ومع الآخرين، إنه يوازن بين القلب والعقل، وبين العفو والحكمة، وبين أن نعيش الحاضر دون أن ننسى دروس الماضي، لأن الحكمة ليست في النسيان، بل في كيفية استخدام التجربة لتحسين حياتنا وحياة من حولنا.

المصدر: الترند العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *