بقلم (عمر غازي)
في محاولة الإجابة على هذا التساؤل يجدر بنا أن أولا أن نتساءل كيف نستطيع أن نفهم القرآن بشكل صحيح؟ ثم ما المراد بالهداية؟ وكيف تتحقق من خلال فهمنا للقرآن؟ وماهو الفعل الحضاري؟ وكيفية الوصول إليه من خلال فهمنا للقرآن وتحقيقنا للهداية.
كيف نفهم القرآن؟
القرآن ليس مجرد كم من الصفحات ينتظمها غلاف المصحف، بل هو نص اجتاز مسار الكون والتكوين خلال مسيرة تجاوزت عشرين سنة، مابين ابتداء الوحي حتى وفاة متلقيه ومبلغه، صلوات الله وسلامه عليه.
ففهم القرآن ليس مجرد نظر في نص ملئت هوامشه وحواشيه لما لايحصى من التفسيرات والتأويلات بل هو أيضا فصل هذا النص على تلك الهوامش والحواشي، ليس من أجل الإلقاء بها في سلة المهملات، بل من أجل ربطها بزمانها ومكانها، كي يتأتى لنا الوصل بيننا نحن في عصرنا وبين النص نفسه كما هو في أصالته الدائمة”(1)
إن انبثاق فهم الكتاب الحكيم في العقل يحتاج من الجهد الذهني ربما أكثر كثيراً مما يتطلبه “انفجارالقرآن الكريم” في القلب من فراغ الذهن. ذلك لأن الجهد المطلوب في عملية الفهم جهد مضاعف وذلك (2) يتطلب منا:
1. معرفة مكانة القرآن الكريم، بالنسبة للتشريع، والعلاقة بينه وبين السنة النبوية وكيفية التعامل معها في حال التعارض، وتظهر هذه الإشكالية على الرغم من إصرار منهجيات الفقه الأصولية على إعطاء الكتاب الكريم اليد العليا وجعل السنة تبعا له، إلا أن الممارسة العملية المتبعة خلال القرون المتأخرة قلبت سلم الأولويات رأسا على عقب، فجعلت الرأي السائد المقبول عند الجمهور أو ضمن المدرسة الفكرية أو الفقهية السائدة حكما على اختيار نصوص السنة وتحديدة دلالاتها والسنة المتخيرة حكما على عملية اختيار نصوص اكتاب وتحديد حكمها حتى أننا نجد من الفقهاء من يقول صراحة الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب” و”السنة قاضية على الكتاب” (3).
2. إبقاء ثوابت الدين وأسسه راسخة في الذهن عند محاولة الربط والتحليل والتقييم لما نتوصل إليه.
3. الاطلاع على ما توصلت إليه المعرفة البشرية التراكمية عبر التاريخ وخاصة إذا كانت الآيات ذات مدلول فلسفي أو علمي تجريبي أو اقتصادي أو اجتماعي أو نفسي أو ثقافي ، والنظر إلى المآلات بنظرة شمولية مقاصدية.
الهداية وكيف تتحق؟
الهداية هي سلوك الطريق الذي يوصل إلى الغاية أو المطلوب، والمقصود بهذا المصطلح هنا هداية الدلالة، والإرشاد، وهذه الهداية لله تعالى ولغيره من المرسلين والأنبياء والمصلحين.
وهذه الهداية هي المذكورة في قوله تعالى: (وهديناه النجدين) (5)؛ أي: بينا له طريق الخير وطريق الشر. وقوله تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)(6) ؛ وقوله تعالى: (ولكل قوم هاد) (7) وغيرها من الآيات الكثيرة التي ورد فيها هذا اللفظ ومشتقاته .
ولتحقيق الهداية يتوجب علينا:
1. التغلب على ضعف المعرفة، (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) (8).
2. إعمال العقل، يقول تعالى:(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، ويقول أيضا: (كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُون) (9)
3. التدبر، والتخلص من الأهواء، يقول تعالى (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) (10)
الفعل الحضاري
الفعل لوحده لا يمثل إنجازا، فنحن نقوم به يوميا، ولكن لم تقدمنا هذه الأفعال خطوة نحو مرادنا، فقضية النهوض حضاريا مرتبطة ارتباطا عضويا بمدى تجاوبنا مع شرط حيويي ألا و هو اقتران الفعل بتصور شامل للنهضة. (11)
ويمكن القول بصراحة بأن القرآن كان فيما مضى هو الدافع الاول لاشتغال المسلمين بالعلوم العقلية من طبيعية ورياضية بشكل النقل والترجمة من اللغات الاخرى في البداية ، ثم استقلوا في الاشتغال بها والابتكار في موضوعاتها والتفريغ في مسائلها والتحقيق في مباحثها الهامة.(12)
فالحضارة الإغريقية التي لاحظت ظاهرة النظام في الحركة الفكرية للعقل البشري وطورت علوم الهندسة والمنطق والحساب والمنطق، وغيرها من العلوم العقلية، لم تستطع التحرر كليا من التصور السحري للطبيعة، فنرى العقل الإغريقي يفسر الظواهر الطبيعية والاجتماعية بردها إلى إرادات الآلهة المتنازعة، ونرى كبار الفلاسفة الإغريق، مثل أفلاطون، وأرسطو، يعتقدون أن الكواكب والنجوم أرواح عاقلة مهيمنة عل الوقائع الطبيعية والاجتماعية. وفي المقابل تمكنت الرسالة الخاتمة من نقل الإنسان من عالم الكهانة والشعوذة إلى عالم البحث العلمي والمعرفي، عندما خلصته من التصور السحري للطبيعة وزودته بتصور علميَ لها، (13) وثمة عشرات الآيات التي تبرهن ولا يسع المقام هنا لإيراد أمثلة لها.
وفي العصور الأخيرة افتقد الإنسان المسلم الشعور بالانتماء إلي أمة قدست طلب العلم وأعلت من شأنه بحيث صار طلبه فريضة دينية، وإلى جانب افتقاد المسلم لشعوره بالانتماء فقد عانى ولا يزال من تغييبه للبعد الحضاري في فعل عيشه، (14) وساهم في ذلك عدة عوامل أبرزها تغييبه للعقل في فهم النصوص الدينية، وإتكاءه على موروث من التأويلات والتفسيرات المجتزئة والأفهام ذات السياق التاريخي والمكاني لكنه أكسبها هالة القداسة وجعله وسيطا في فهمه ليس للنصوص فحسب وإنما في رسم الثوابت والأسس والأولويات، بالإضافة إلى تحجيم التعامل مع القرآن الكريم من خلال حصر الاستفادة منه في مجالات ضيقة ومحدودة فالبعض لا يعرف القرآن إلا من أجل تلاوته للحصول على الأجر، وغالبا ما يكرر ألفاظه وحروفه وكلامته دون محاولة إدراك مفاهيمه ومعانيه وتتضح هذه الظاهرة في شهر رمضان الكريم حيث يحرص الناس على ختم القرآن تلاوة ولم يلتفت أحد إلى محاولة المرور على سوره وآيته تدبرا وفهما، ومن الصور الأخرى النظر إلى القرآن على أنه صيدلية فحسب فإذا ألم به مرض أو ألم هرع إلى كتاب الله يتلوه، فهناك أيات لعلاج المس وأخرى للعين وثالثة للسحر وهلما جرا، وفريق آخر لا يعرف القرآن إلا في حالات الوفاة وفي المآتم حتى أن البعض ربط بين الاستماع إلى القرآن وبين العزاء.
وهنا يطرح السؤال نفسه ما هي الوسائل التي يمكن من خلالها تحقيق هداية القرآن وتحويله إلى فعل حضاري؟
لن يتحقق ذلك سوى بالعودة إلى مرحلة الاجتهاد وإعمال العقل لفهم النص وتطبيقه وفق القيود التي تفرضها بنية العقل، ومبادئ التفكير السليم، والزمان والمكان، وهي المرحلة التي ماقبل الشافعي حيث كتب كتابه الرسالة فحدد الاجتهاد بالقياس، ورفض الاستحسان، وجعل السنة مصدراً تشريعيا مكافئا للكتاب، ولم يجز نسخ الحديث بالقرآن.
ومع انتشار المنهجية النصوصية أقيل العقل، حتى أعلن ابن القيم الجوزية في منتصف القرن الثامن الهجري استغناء الفقيه عن كل نهج يتطلب إعمالا للعقل في النص فقال: “ونحن نقول قولاً ندين الله به ونحمد الله على توفيقنا له ونسأله الثبات عليه: إن الشريعة لم تحوجنا إلى قياس قط، وإن فيها غنية وكفاية عن كل رأي وقياس وسياسة واستحسان، ولكن ذلك مشروط بفقهم يؤتيه الله عبده فيها، وقد قال تعالى (ففهمناها سليمان)..” (15)
وللوصول لهذه النتيجة يتطلب ذلك
(1) تجاوز الإشكاليات التي تولدت عن التوظيف المجتزئ لطرائق الاستنباط.
(2) إظهار التكامل بين العقل والوحي، والتأكيد على عدم فهم نصوص الوحي وتعيين دلالاتها ثم تحويلها لواقع حي مؤثر في حياة الناس دون إعمال العقل في النص.
——————–
1. محمد عابد الجابري، فهم القرآن الحكيم التفسير الواضح حسب ترتيب النزول (القسم الأول)، (ص/7).
2. محمد عابد الجابري، المصدر السابق، (ص/10).
3. لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية (ص/127).
4. التفسير الشمولي لآيات القرآن الكريم، موسوعة الأفكار، http://mohammed-thiab.blogspot.com/2013/04/blog-post.html
5. سورة البلد: 10.
6. سورة الإسراء: 9.
7. سورة الرعد: 7.
8. الإسراء: 85
9. سورة يونس: 24
10. سورة محمد: 24
11. عفاف عنيبة، دور الفعل النهضوي فى البناء الحضاري
12. محمد حسين الطبطبائي، القرآن في الإسلام، (ص/146)
13. لؤي صافي، إعمال العقل من النظرة التجزيئية إلى الرؤية التكاملية.
14. عفاف عنيبة، دور الفعل النهضوي فى البناء الحضاري، مصدر سابق.
15. لؤي صافي ، مرجع سابق (ص/166).