عمر غازي
تشير العديد من الدراسات إلى أن الناس غالبًا ما يظهرون تعاطفًا قويًا مع من هم أقل حظًا منهم، سواء كانوا فقراء، أو ضعفاء، أو يمرون بأزمات صعبة، وهذا التعاطف ينبع من رغبة الإنسان الطبيعية في مساعدة الآخرين والشعور بالرضا الأخلاقي عند تقديم الدعم، ولكن المفارقة تكمن في أن نفس هؤلاء الأشخاص الذين يتعاطفون مع الأضعف قد يواجهون صعوبة كبيرة في إظهار نفس المستوى من التعاطف إذا ما نجح الشخص الأضعف أو تفوق عليهم، إذ أن هذه التحولات في المشاعر لا تأتي بشكل فجائي، بل تتبع نمطًا نفسيًا معقدًا يمتزج فيه التعاطف بالحسد.
في دراسة أجرتها جامعة برينستون عام 2015، وجد الباحثون أن الناس يميلون إلى التعاطف مع الآخرين عندما يشعرون بأنهم في وضع أفضل منهم، وهذه الدراسة أظهرت أن المشاعر الإنسانية الأساسية مثل الشفقة والتعاطف تظهر بشكل قوي عندما يكون الشخص المقابل في حالة من الضعف أو المعاناة، ولكن ما أن يتغير الوضع ويبدأ الشخص الآخر في النجاح أو التفوق، حتى تبدأ مشاعر الحسد والغيرة بالظهور مما يقلل من التعاطف، ومن ثم قد يتحول التعاطف الذي كان يملأ القلوب إلى نوع من الرفض أو حتى العدوانية تجاه هذا الشخص الناجح.
هذه النتائج لا تقف عند هذا الحد، بل تؤكدها دراسة أخرى نشرتها جامعة كاليفورنيا في بيركلي عام 2017، والتي أظهرت أن النجاح يمكن أن يؤدي إلى ما يُعرف بـ “التعاطف العكسي”، حيث يتحول التعاطف إلى مشاعر سلبية مثل الحسد والغيرة، حيث قام الباحثون في هذه الدراسة بتحليل ردود أفعال المشاركين تجاه زملائهم الذين كانوا في البداية يواجهون صعوبات ثم تمكنوا من النجاح، وكانت النتيجة أن المشاركين شعروا بمزيد من الحسد والابتعاد عن زملائهم عندما حققوا نجاحًا كبيرًا مقارنة بحالتهم الأولى، وهذه الظاهرة النفسية تعكس تعقيدات التفاعل البشري حيث يمكن أن تصبح نجاحات الآخرين مرآة تعكس نقاط ضعفنا، مما يدفع البعض للتعامل مع هؤلاء الناجحين ببرود أو تهميش.
العوامل النفسية وراء هذا التغيير في المشاعر معقدة، ولكنها ترتبط بشعور الأفراد بتهديد مكانتهم أو قيمتهم الذاتية عندما يرون شخصًا آخر يحقق نجاحًا يفوق نجاحهم، علم النفس الاجتماعي يوضح أن الحسد يمكن أن يكون ناتجًا عن مقارنة الشخص لنفسه بالآخرين، حيث يشعر الإنسان بأن نجاح الآخرين يهدد صورته الذاتية ويجعله يبدو أقل شأناً، هذه المشاعر غالبًا ما تكون غير مريحة، مما يدفع البعض إلى تجنب التعامل مع الشخص الناجح أو التقليل من قيمة نجاحاته، وهكذا يتحول التعاطف الذي كان يظهر في البداية إلى نوع من الحسد المكتوم الذي قد يتحول إلى سلوكيات سلبية.
واحدة من الأمثلة الشهيرة على هذا الظاهرة هو ما وصفه العالم الاجتماعي “آدم سميث” في كتابه “نظرية المشاعر الأخلاقية” في القرن الثامن عشر، حيث أشار إلى أن الإنسان يشعر بالراحة عند مساعدة الآخرين الأضعف منه، لكنه يعاني من صعوبة في تقبل تفوق هؤلاء عليه لاحقًا، هذه الفكرة تم تطويرها ودعمها بمزيد من الدراسات الحديثة مما يؤكد أن الحسد والتعاطف هما وجهان لعملة واحدة يمكن أن يتغيرا تبعًا للظروف، إن التعاطف الذي نبديه نحو الآخرين في لحظات ضعفهم قد يكون مشوبًا بمشاعر خفية من الحسد التي تظهر عندما يتفوق هؤلاء الأشخاص أو يحققون النجاح.
من خلال هذه الدراسات، يتضح أن الحسد ليس مجرد شعور عابر، بل هو جزء من الطبيعة البشرية التي تتفاعل بشكل معقد مع مفاهيم النجاح والفشل، فبينما يساعد التعاطف في بناء العلاقات الإنسانية، وقد يكون الحسد هو العامل الذي يهدد تلك العلاقات عندما يتغير توازن القوى، وهنا يظهر لنا بوضوح كيف يمكن للمشاعر الإنسانية أن تتداخل بشكل معقد، مما يجعلنا نواجه تحديات كبيرة في الحفاظ على العلاقات الإيجابية في مواجهة نجاح الآخرين.
ولعل من المؤسف أن نقول أن التعاطف مع الآخرين ليس دائمًا دليلاً على مشاعر نبيلة فقط، بل قد يكون مرتبطًا بشكل مباشر بمكانة الشخص نفسه مقارنةً بالآخرين، وعليه، ولذا يجب أن نكون واعين لهذه الديناميكية النفسية المعقدة حتى نتمكن من تطوير علاقات صحية ومتوازنة مع من حولنا، فمن المهم أن نتعلم كيف نتعامل مع مشاعر الحسد بشكل إيجابي، وأن نحول تلك المشاعر إلى دافع يدفعنا نحو تحسين ذواتنا بدلاً من أن يكون سببًا لتدمير علاقاتنا مع الآخرين.