عمر غازي
في دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2018، تم التوصل إلى أن العلاقة المتوترة بين الوافدين والبلدان المستقبلة تتزايد بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة، وهذه التوترات غالبًا ما تكون ناتجة عن مخاوف اقتصادية وثقافية متجذرة لدى السكان المحليين، بالإضافة إلى تحديات التكيف التي يواجهها الوافدون.
وفي الوقت الذي تثير فيه الهجرة آمال وطموحات الوافدين، تثير أيضًا مخاوف السكان المحليين، حيث تتركز هذه المخاوف في الخوف من فقدان الهوية الثقافية، القلق بشأن الموارد الاقتصادية، والشعور بالتهديد من القادمين الجدد، فالهجرة ليست مجرد انتقال جسدي من مكان إلى آخر، بل هي أيضًا انتقال ثقافي واجتماعي يتطلب توازنًا دقيقًا بين الحفاظ على الهوية الأصلية والتكيف مع البيئة الجديدة، فقد أدت موجات الهجرة الكبيرة في العديد من الدول الأوروبية وحتى العربية في السنوات الأخيرة إلى تصاعد النزعة القومية والشعبوية، حيث يشعر السكان المحليون بأن ثقافتهم وتقاليدهم مهددة.
العنصرية هي أحد الجوانب السلبية التي تتجلى في التعامل مع المهاجرين والوافدين، ويشير تقرير صادر عن المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان لعام 2020 إلى أن العديد من المهاجرين يواجهون تمييزًا عنصريًا في مجالات مثل العمل والتعليم والإسكان، وهذا التمييز لا يقتصر فقط على الأفراد، بل يمتد إلى السياسات الحكومية التي قد تستهدف فئات معينة من المهاجرين، ففي فرنسا، على سبيل المثال، أشارت دراسة نشرتها مجلة “لوموند” عام 2019 إلى أن المسلمين من أصول مهاجرة يعانون من مستويات أعلى من التمييز مقارنة بغيرهم من المهاجرين.
تسييس قضية الهجرة أصبح أيضًا أداة في يد السياسيين لكسب تعاطف الناخبين، ففي العديد من البلدان، يُستخدم ملف الهجرة كوسيلة لتوجيه الرأي العام وإثارة المخاوف من “الآخر”، ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، استخدم بعض السياسيين قضية بناء الجدار الحدودي مع المكسيك كوسيلة لتعزيز شعبيتهم بين الناخبين المحافظين، وهذه السياسة بلا شك تساهم في تأجيج المشاعر السلبية تجاه المهاجرين وتغذي الشعور بالعداء تجاههم.
يواجه المهاجرون أو الوافدون لأغراض الإقامة والعمل تحديات كبيرة في محاولاتهم للتكيف مع البيئة الجديدة، حيث يجدون أنفسهم غالبًا في مواجهة لغز الهوية، وهو ما يجعلهم في حالة صراع لإحداث توازن بين الحفاظ على جذورهم والانفتاح على الثقافة الجديدة. يعانون من الغربة، والحنين إلى الوطن، والصعوبات اللغوية والثقافية، وهذه التحديات تجعل من الصعب عليهم الاندماج بسهولة في المجتمع الجديد، إذ تشير بعض الدراسات إلى أن التكيف الكامل قد يستغرق جيلاً أو جيلين، حيث يجب تجاوز الحواجز الثقافية والاجتماعية التي تعيق الاندماج.
من الأمثلة على استخدام قضية الهجرة في السياسات الانتخابية، نجد ما حدث في المملكة المتحدة خلال حملة الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي “بريكست”، حيث قُدمت الهجرة كواحد من الأسباب الرئيسية للخروج، مع التركيز على المخاوف من تدفق المهاجرين الأوروبيين وتأثيرهم على سوق العمل والنظام الصحي، وساهم هذا الخطاب السياسي في تحفيز الناخبين الذين يخشون فقدان “السيطرة” على بلدهم، وأدى في النهاية إلى تصويت لصالح الخروج.
تتطلب العلاقة بين الوافدين والبلدان المستقبلة جهودًا مشتركة من جميع الأطراف، فالتعلم من تجارب الآخرين، والتوعية الثقافية، والجهود الحكومية يمكن أن تساهم في تخفيف التوترات وبناء مجتمعات أكثر تلاحمًا وتفاهمًا، ومع ذلك، لا يجب أن نتوقع تكرار نموذج “المهاجرين والأنصار” الذي شهده مجتمع المدينة المنورة في عصر النبوة، حيث استضاف الأنصار المهاجرين وتآخوا في الله وهي الرابطة التي تسمو على كل الروابط الأخرى، فما حدث آنذاك كان استثناءً لن يتكرر في السياقات المعاصرة، نظرًا لتعقيدات الحياة الحديثة والاختلافات الثقافية والاجتماعية، فالمسلمين اليوم هم أكثر أهل الأرض لجوءًا لغيرهم من أصحاب الأديان والمحلل الأخرى، ولم يعودا فيما بينهم مهاجرون وأنصار، وفي اعتقادي الشخصي أن رابطة الدين وحدها هي التي استطاعت أن تزيل هذه الحساسيات من النفوس التي جبلت بطبيعتها على التحفظ على الغرباء والشعور بالخطر منهم.
وعلى كل حال ينبغي أن ندرك أن الهجرة جزء لا يتجزأ من تاريخ البشرية، وأن التعامل معها بإنصاف وعدالة هو ما يضمن تحقيق مجتمع أكثر تسامحًا وتنوعًا، فالعنصرية وتسييس الهجرة لتحقيق مكاسب سياسية قصيرة الأمد هما عائقان أمام تحقيق هذا الهدف، والعمل على تعزيز التفاهم والتعايش بين الثقافات المختلفة هو الطريق الأمثل لمواجهة هذه التحديات.