بقلم (عمر غازي)
المناداة بعودة الخلافة الإسلامية من العوامل الرئيسية لظهور جماعات الإسلام السياسي، وعلى الرغم من مضي ما يقرب من 90 عاما على تاريخ إلغاء الخلافة العثمانية لم يقدم الإسلاميون آليات واضحة لاستعادتها ولا لشكل الدولة في ظل المتغيرات التي تناسب مع عصرنا وواقعنا وتتلاءم مع النظام العالمي الجديد.
بقيت الخلافة حلما تهفو إليه القلوب وتتحرك إليه العواطف لرمزيتها لدى المسلمين وتواجدهم كقوة عظمى واتحادهم واستقلالية قراراتهم وعدم تبعيتهم في ظل وجودها، لكن المتأمل في مواقف منظري وقادة الإسلام السياسي يلحظ ضبابية الرؤية وغياب المشروع والاكتفاء بالعبارات العريضة والشعارات الملتهبة.
ويمكننا القول إن هناك خطين عريضين لتبني مطلب الخلافة الأول يتصف بالجمود وعدم التطور على الرغم من وجود مشروع مكتوب منذ بدايات التأسيس لحزب التحرير الإسلامي منذ تأسيسه عام 1953م وضعه المؤسس القاضي الفلسطيني تقي الدين النبهاني (1914 – 1977م) تحت مسمى دستور دولة الخلافة، والاتجاه الثاني تمثله جماعة الإخوان المسلمين التي أسسها في الإسماعيلية بمصر سنة 1928م حسن البنا (14 أكتوبر 1906 – 12 فبراير 1949م) بعد أربعة سنوات من انهيار الخلافة العثمانية، حيث تعاملت الجماعة مع الأمر الواقع مع بقاء الغاية فانخرطت في العمل السياسي والبرلماني وقبلت بالديمقراطية ولو كآلية مرحلية.
حزب التحرير .. الخلافة مطلبا لاستئناف الحياة الإسلامية
يقوم الحزب على فكرة أساسية غير قابلة للمناقشة أو الحلول الوسط وهي ضرورة عودة الخلافة الإسلامية أولا إذ يرى أن استئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم لن يكون إلا في ظل دولة إسلامية، هي دولة الخلافة، والتي ينصب المسلمون فيها خليفة يبايعونه على السمع والطاعة على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وعلى أن يحمل الإسلام رسالة إلى العالم بالدعوة والجهاد.
اعتمد الحزب على التنظير فقط في سبيل تحقيق حلم الخلافة المنشود فهو يرفض رفضا قاطعا ما يسميه الأعمال المادية فيرفض فكرة الثورات واللجوء للعنف والأعمال والمسلحة، وتعتمد أبجديات الحزب على فكرة الصراع الفكري مع أفكار الكفر وأنظمته، فيحرم الحزب الديمقراطية والرأسمالية تحريما تاما وقاطعا لا يترك مجالا للاستفادة منها كنوع اضطراري أو مرحلي كتعامل التيار السلفي مع الديمقراطية في الوقت الحالي في مصر مثلا ، فأصدر كتاباً رسمياً بعنوان: “الديمقراطية نظام كفر، يحرم أخذها أو تطبيقها أو الدعوة إليها”.
ولعل من أبرز ما ميزه عن غيره من تيارات الإسلام السياسي هو وجود رؤية مكتوبة عن كيفية إدارة “الدولة الإسلامية” إذا ما استطاع إقامتها والسيطرة عليها، وذلك من خلال صياغة مسبقة لدستور لهذه الدولة ليتم تطبيقه مباشرة بعد قيام الخلافة فألف النبهاني كتابا بعنوان نظام الإسلام ووضع الحزب تصورا كاملا لأجهزة دولة الخلافة في الحكم والإدارة في كتاب “مفاهيم سياسية” كما وضع الحزب برنامجه الاقتصادي في كتاب (الأموال في دولة الخلافة) و كتاب النظام الاقتصادي في الإسلام للشيخ تقي الدين النبهاني (1).
حدد حزب التحرير ثلاثة مراحل أساسية في سبيل قيامه بمهمته الأساسية التي قام من أجلها وهي الخلافة استلهمها من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم منذ بداية البعثة ودعوته في مكة، لكون المسلمين اليوم في مفهوم الحزب يعيشون في دار كفر، لأنهم يحكمون بغير ما أنزل الله فدارهم أصبحت تشبه مكة حين بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لذلك فهو يرى أن يتخذ الدور المكي في حمل الدعوة هو موضع التأسي.
وهذه المراحل الثلاث مرحلة التثقيف لإيجاد أشخاص مؤمنين بفكرة الحزب وطريقته لتكوين الكتلة الحزبية ثم مرحلة التفاعل مع الأمة، لتحميلها الإسلام، حتى تتخذه قضية لها، كي تعمل على إيجاده في واقع الحياة.وأخيرا: مرحلة استلام الحكم، وتطبيق الإسلام تطبيقاً عاماً شاملاً، وحمله رسالة إلى العالم.
ولكي تتحقق هذه المرحلة لابد من طلب النصرة من رئيس الدولة، أو رئيس كتلة، أو قائد جماعة، أو زعيم قبيلة، أو من سفير، أو ما شاكل ذلك.
ووضع الحزب مدة زمنية لقيام الخلافة وهي ثلاثة عشر عاماً من تاريخ تأسيسه، ثم قام بمدها إلى ثلاثة عشر عاماً أخرى للوصول إلى الحكم، ثم مددها ثالثاً مراعاة للظروف والضغوط المختلفة، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث على الرغم من مضي المدتين ومرور نحو ستون عاما على إنشاءه حتى اليوم.
أخذت فكرة الخلافة نصيب الاسد من اهتمام الحزب فهي الغاية والهدف ولأجلها كان التركيز الأكبر على النواحي الفكرية والسياسية وإهمال الجوانب التربوية والدعوية، فمتى ما وجد الخليفة وجدت الدولة الإسلامية ولذا وجدنا محاولات عملية لتطبيق مفهوم طلب النصرة فعرض الحزب الخلافة على الزعيم الليبي معمر القذافي عام 1968م كما عرض الخلافة على الخميني وأرسل وفدا إلى طهران لعرض البيعة عليه ومبايعته خليفة للمسلمين لكن الخميني وعدهم خيرا ولم يرسل لهم جوابا مما اضطر الحزب إلى إرسال رسالة أخرى يعاتبه فيها على هذا التجاهل عنون لها بـ”نقد الدستور الإيراني(2)”.
وبالرغم من محاولات الحزب العديدة في طلب النصرة وهو مفهوم بدائي جدا في العمل السياسي فإن الحزب يضم عداء ثابت لكل التيارات الوطنية والقومية والإسلامية في الوطن العربي مما جعله حزبا معزولا ولا يتمتع بعلاقات سياسية جيدة مما حال دون تشكله ونضوجه في صيرورة شعبية(3).
الإخوان .. الخلافة تبدأ من التنظيم الدولي
الخلافة هي الغاية للمشروع الذي أسسه حسن البنا فهو يبدأ بعدة مراحل تنتهي بأستاذية العالم كما عبر عنها وهي: بناء الفرد المسلم، فالأسرة المسلمة، فالمجتمع المسلم، فالحكومة الإسلامية، فالدولة الإسلامية، فالخلافة الإسلامية، فأستاذية العالم. ويقول: ” … هذا الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه”. (4)
بل إن مطلب الخلافة أخذ عند البنا أخذ أولوية على مطلب الاستقلال الوطني إبان تلك الحقبة التي كانت فيها البلاد ترزح تحت الاحتلال الإنجليزي، وقد أعلن الشيخ البنا في العيد العاشر للجماعة أن الإخوان يعطون الأولوية لاسترداد الخلافة. (5)
ويؤكد ذلك أيضا الباحث الوثيق الصلة بحركة الإخوان د. إسحاق موسى الحسيني “إن تحرير وادي النيل كله من النفوذ الأجنبي كان مطلبا يلي في الأهمية لدى الإخوان مطلب إقامة الحكومة الإسلامية” (6)
غير أن المتابع للمشروع الإخواني في السنوات التي سبقت الربيع العربي يلمس تحولا في الدعاية الإعلامية للجماعة انتقلت من أفق الخلافة وإقامة الدولة الإسلامية العالمية إلى الاستيعاب كاملا في مشروع الدولة الوطنية القطرية الحديثة التي بدا أنها استوعبت المشروع الإخواني بعد أن ظل زمنا طويلا يسعى إلى تجاوزها (7)
فخلت مبادرة الإصلاح التي أصدرتها الجماعة في مارس 2004م من قضية الخلافة وجاءت محلية غارقة في قضايا وهموم الشأن المصري، بل كانت المفارقة أن أبرز التعديلات التي طالت المبادرة التي كانت تطويرا للبرنامج الانتخابي للجماعة عام 2000م هو إسقاط البعد الخارجي تماما بما فيه القضيتين المركزيتين في العالم الإسلامي فلسطين والعراق.
وأسقطت الجماعة في الانتخابات البرلمانية عام 2005م تماما كل ما تعلق بقضية الخلافة ليس على مستوى البرنامج السياسي فقط بل وحتى على مستوى الرمزية، إذ خلت الدعاية الانتخابية من أي إشارة إلى دولة الخلافة الإسلامية أو حتى الدولة الإسلامية. (8)
غير أن هذه الممارسات وإن بدت تحولا في فكر الجماعة وإستراتيجيتها فإن ذلك مرده إلى الظروف السياسية التي تتحكم في الجماعة وطبيعتها البرجماتية ولا يمكن اعتبارها تخليا عن مشروعاتها الرامية إلى الخلافة بدليل وجود التنظيم الدولي كآلية تعول عليها الجماعة للوصول إلى هذا الحلم كما سيأتي معنا.
في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي تزامنا مع وضع اللمسات النهائية لإعلان أول تنظيم دولي رسمي في تاريخ الجماعة في 29 يوليو 1982م حيث تم الكشف عن اللائحة التي عرفت بالنظام العام للإخوان المسلمين، كان الدكتور توفيق الشاوي )15 أكتور 1918 – 8 أبريل 2009( وهو مفكر وفقيه دستوري إخواني بارز يتحدث في العديد من مؤلفاته عن فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية وهو البحث الذي نال به الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا رسالة الدكتوارة الثانية في فرنسا عام 1925م في معهد القانون المقارن بجامعة ليون أي بعد عام من حل الخلافة العثمانية، ولم تتم ترجمته العربية إلا بعد نحو ثمانين عاما من تأليفه على يد الشاوي نفسه لاحقا.
وتتلخص فكرة السنهوري التي أعجب بها الدكتور الشاوي وتبناها وروج لها في غير موضع إلى إمكانية إقامة نظام الخلافة ولو كانت بصورة غير مكتملة وهو ما عبر عنه بنظرية الخلافة الناقصة، وبنى نظريته التي قدمها في رسالته على أن إقامة نظام الخلافة ولو كانت ناقصة هي ضرورة دينية ليست واجبة فقط بل هي ممكنة كذلك إذا أخذت صورة منظمة دولية بدل دولة كبرى موحدة، إذ لاحظ السنهوري أن هناك واقعا جديدا لابد من أخذه في عين الاعتبار وهو انفصال الأقطار الإسلامية عن بعضها مما أدى إلى انشغال كل قطر منها بكفاحه الوطني ضد الغزو أو النفوذ الاستعماري، وتمكن بعضها من تكوين دولة وطنية في حدود القطر التي رسمتها له وفرضتها عليه القوى الأجنبية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وملاءمة لهذا الواقع الجديد من رجل قانون ومفكر وهو السنهوري حاول معالجة فكرة الخلافة لمن خلال آلية واقعية ولو بشكل مرحلي بتحويلها إلى منظمة دولية عالمية، مادامت الضرورات الواقعية تحول دون إقامة دولة موحدة عظمى كما كان الحال منذ فجر الإسلام (9)
هذا البديل المبكر الذي طرحه السنهوري بقي حبيس الأوراق بعيداً عن البعث لدى الحركات الإسلامية إذ لم ينقل الكتاب إلى العربية إلى بعد نحو ستون عاما من تأليفه على يد القيادي الإخواني توفيق الشاوي الذي اعتبر الكتاب ملهما له ومجرد بداية لانطلاقة جديد في عالم الفكر والفقه وعالم السياسة والواقع (10).
تبدو فكرة منظمة الخلافة أو التنظيم الدولي كما عرف لدى الإخوان للمتأمل بديلا عمليا لفكرة الخلافة الإسلامية حيث ينطوي تحت هذا التنظيم الدولي الذي يعد المرشد الخامس مصطفى مشهور (15سبتمبر 1921 – 2002) مهندسه في فترة السبعينيات والثمانينيات، حيث انضوى تحته لاحقا الكثير من الجمعيات والاتحادات الإسلامية والأذرع الاقتصادية والتنموية وبالتالي تتمكن جماعة الإخوان المسلمين من إدارة المسلمين ضمن إطار إسلامي عالمي بقيادتهم إذا ما وصل الإخوان إلى رأس السلطة وهو بالفعل ما تم العمل عليه وتحقيقه في فترة التسعينيات.
الربيع العربي .. بوابة الخلافة الإخوانية
ينظر الإخوان المسلمين إلى الربيع العربي الذي صعد بهم إلى الواجهة على أنه الفرصة الذهبية للانطلاق لفتح صفحات الخلافة، وإذا ما تتبعنا عدد من مواقف وتصريحات قيادات الجماعة سنلمح بوضوح بروز هذا الخطاب لدى شتى الفروع والأذرع الإخوانية فعلى منبره في غزة رأى إسماعيل هنية، رئيس حكومة حماس وصول الإخوان للسلطة في مصر وتونس، هو بداية الخلافة الإسلامية واعتبر أن اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، “سيفتح صفحات الخلافة”.
وقبل هنية، كان حمادي الجبالي في تونس، وتحديدا في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 وفي خطبة حماسية في مهرجان احتفالي لحركة النهضة في مدينة سوسة، بشر الجبالي الجميع ببداية الخلافة الراشدة السادسة.
أما الشيخ عبد المجيد الزنداني، أحد رموز الحركة الإسلامية في اليمن، فكان أكثر شاعرية وهو يقول للحشود المتظاهرة في صنعاء ضد نظام علي عبد الله صالح، إنه يرى صباح الخلافة الإسلامية يطل من كل مكان في العالم الإسلامي، وكرر هذا الكلام في حوار سابق مع صحيفة الرأي الكويتية، حيث قال إن فوز محمد مرسي في مصر هو مبشر ببداية الخلافة الإسلامية (11).
أحلام الإخوان لن تتوقف عند بلدان الربيع العربي فأذرع التنظيم الدولي تعمل بجد وإذا ما كانت هناك أي رياح قادمة للتغيير فسيكون وراءها إخوان الداخل الذين لن تهدأ حركتهم الدءوبة بشتى السبل في استثمار الفرصة من أجل أستاذية العالم المرهونة بفهم البنا وأصوله العشرين إذ يرى المؤسس إنه يجب على كل مسلم أن يعتقد أن منهج الإخوان المسلمين كله من الإسلام وأن كل نقص منه نقص من الفكرة الإسلامية الصحيحة.(12)
————————–
هوامش:
(1) جميع كتب وإصدارات الحزب منشورة على موقع الإلكتروني الرسمي على الرابط التالي:http://www.hizb-ut-tahrir.org/index.php/AR/books
(2) “حزب التحرير” الإسلامي يعترض على وثيقة “الأزهر” بخصوص مدنية الدولة، مصطفى زهران، موقع مركز الدين والسياسة http://www.rpcst.com/news.php?action=show&id=3449
(3) الدكتور عبد الله النفيسي، الفكر الحركي للتيارات الإسلامية (ص/24)، الطبعة الأولى 1995، شركة الربيعان للنشر والتوزيع – الكويت، وانظر: حزب التحرير يعود للحياة مع الثورات العربية ، ط 2012 الناشر مركز الدين والسياسة للدراسات ومؤسسة الانتشار العربي
(4) رسائل حسن البنا (ص/272).
(5) طارق البشري، الحركة السياسية في مصر 1948 -1953 (ص/121-122)
(6) انظر: رفعت السعيد، حسن البنا متى – كيف لماذا؟ (ص/140).
(7) حسام تمام، تحولات الإخوان المسلمين (تفكك الأيدلوجيا ونهاية التنظيم)، ط 2، 2009 مكتبة مدبولي (ص/8).
(8) حسام تمام، تحولات الإخوان المسلمين، مصدر سابق (ص/8).
(9) توفيق الشاوي، سيادة الشريعة الإسلامية في مصر، الطبعة الأولى 1978م (ص94-95).
(10) توفيق الشاوي، المصدر السابق (ص96)
(11) ثورة الخليفة الإخواني/ مشاري الذايدي، الشرق الأوسط اللندنيةhttp://www.aawsat.com/leader.asp?sec…2#.UXFQSbXwm9s
(12) حسن البنا، مذكرات الدعوة والداعية (ص/254).
نشر في موقع مركز الدين والسياسة للدراسات