انتقائية المساواة

عمر غازي

هل يطالب دعاة المساواة بالعدد نفسه من النساء فوق السقالات وتحت الأنفاق كما يطالبون بهن خلف المكاتب المكيّفة، وهل تُقاس العدالة بتطابق الصور أم باعترافٍ صريح بطبيعة الأعمال وبالقدرات المطلوبة لكل مهنة وباختيارات الناس حين يواجهون تعب الواقع لا شعارات المنصات.

القول بالمساواة حين يُختزل إلى مخرجات متطابقة يتحول إلى انتقاء، إذ تُرفع الراية في الوظائف المريحة وتُطوى في المهن الشاقة والخطرة، بينما الأرقام الصلبة تكشف أن الرجال يتحملون العبء الأكبر من أعمال الخطر في اقتصادات العالم الصناعي، ففي الولايات المتحدة ظلّ الذكور يشكّلون ما بين 91 و93 بالمئة من الوفيات المهنية سنويًا عبر أكثر من عقد، وهي إشارة قاطعة إلى أن أثقل أثمان العمل تُدفَع حيث يندر الطلب النسائي على المهنة ولا تنفع اللغة الانتقائية في تغيير طبيعتها.

وفي البناء والحِرَف الإنشائية تتجلى الفجوة بصورة أوضح، إذ تُظهر بيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي لعام 2023 أن النساء نحو 10.8 بالمئة من قوة العمل في قطاع البناء ككل، لكن حضورهن داخل المهن الحرفية المتخصصة والعمالة الميدانية يظل محدودًا جدًا مقارنة بسائر أدوار القطاع، كما أن نسبة المتدرّبات من إجمالي المتدرّبين في الحِرَف لا تتجاوز بضعة بالمئة رغم نموّها في الأعوام الأخيرة، وهذه أرقام تصف الواقع كما هو لا كما يُراد له أن يبدو في الصور الدعائية.

وعند قيادة المركبات الثقيلة تتكرر الحكاية نفسها، فحصة النساء بين سائقي الشاحنات وسائقي التوزيع بقيت في حدود أحادية الرقم إلى نحو عشرة بالمئة في الولايات المتحدة خلال تقارير حديثة، ما يعني أن دعوات المساواة التي تنشد تطابق النتائج تصطدم ببنية المهنة نفسها وبمسارات التدريب والسفر الطويل وبمقتضيات الأمان الشخصي التي لا تحلّها الشعارات، بل تحلها ترتيبات تنظيمية وتقنية طويلة النفس إن أردنا فعلا زيادة المعروض النسائي في هذه الحقول.

ليس المقصود هجاء النساء ولا تمجيد الرجال، المقصود ضبط المصطلح والاحتجاج بالواقع، فكما أن الأعمال الشاقة والخطرة يستقر فيها حضور الرجال تاريخيًا وبحكم اللياقة المطلوبة والساعات القاسية، فإن أعباء الرعاية غير المدفوعة في البيوت تقع في معظم البلدان على النساء ساعاتٍ أطول من الرجال وفق قياسات استخدام الوقت، أي إن المجتمع يقف أمام توزيعٍ واقعي للأدوار لا يلغي العدالة بل يطالب بتسميتها الصحيحة، عدالة الفرص لا مساواة النتائج، وتصميم شروط عملٍ تُراعي هذا التوزيع بدل صناعة خصومة لفظية لا تغيّر شيئًا في الميدان.

وحين يُرفَع شعار المساواة على نحوٍ انتقائي يصبح صاحب الشعار غير محايد من حيث لا يشعر، يطالب بالتطابق في المواضع السهلة ويتجاهل الفروق في المواضع الصعبة، بينما الطريق المهني العاقل يقول بفتح الأبواب لمن ترغب في أصعب المهن بشرط اجتياز عتباتها البدنية والفنية المعلنة، وبجعل بيئاتها أكثر أمانًا متى أمكن، ويقول في المقابل بمرونةٍ مؤسسية تعترف بمسار الأمومة والرعاية فلا تُحوِّله إلى خصومة مع العمل ولا إلى ذريعة لخطابٍ يطارد أرقامًا متساوية على الورق ويترك الواقع على حاله.

العدالة هنا ليست رقمًا متطابقًا بين رجل وامرأة في كل مهنة وكل ساعة، بل أن يحصل كلٌّ منهما على حقّه في المحاولة بلا عوائق مصطنعة، وأن تُصمَّم قواعد المهن بما يعكس شروطها الحقيقية من تعبٍ وخطرٍ ومسافات، وأن نكفّ عن بيع الوهم للجمهور عبر مساواة انتقائية تُزاحم في الوظائف المريحة وتتوارى في مواضع الخطر حين يحين وقت السقالات والليل والبرد.

ويبقى السؤال بلا إجابة، هل نملك شجاعة الانتقال من شعار المساواة إلى هندسةٍ منصفةٍ للفرص تعترف بطبيعة الأعمال وباختيارات الناس، أم سنظل أسرى انتقائيةٍ تُرضي الخطاب لحظةً وتخون الحقيقة كل يوم.

المصدر: الترند العربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *