بقلم (عمر غازي)
قبيل الثورة المصرية كانت هناك حالة عزوف في الشارع المصري عن الانخراط في السياسة فلم يكن ثمة معارضة حقيقية أو مشاركة شعبوية في العملية السياسية لأن النتائج معروفة مسبقا وسواء حضر الناس أم لم يحضروا فالصناديق الانتخابية مملؤة بأصوات الناخبين في اتجاه معين وهو ما تندر عليه بعض الناشطين لاحقا عندما شاهدوا طوابير الانتخابات في المرحلة التي تلت سقوط مبارك بالقول أن من مميزات المخلوع أنه كان يذهب للانتخاب ويضع صوته بديلا عنهم إراحة لهم من عناء الانتظار الطويل.
استطاع نظام مبارك تجريف الحياة السياسية في مصر على مدار ثلاثة عقود، ناهيك عن حالة اليأس التي تم تصديرها عبر الأجيال إلى وجدان الشعب المصري، فكانت المقولة الخالدة (عايزين نربي العيال)، وهي الحيلة التي يحتال بها المواطن على نفسه ليعطي لها مبرراً للإذعان والصمت وقبول الذل والهوان، ولم يسأل نفسه لوهلة كيف سيربي العيال وقد نهبت مقدرات الشعب وقوت أبناءه وتوغلت السلطات على القانون وسيادة الدستور.
كان الإخوان أو (الجماعة المحظورة) كما كان يطلق عليها نظام مبارك وإعلامه القوة الأبرز والأكثر حصداً للمقاعد في مواجهة الحزب الوطني وشهد برلمان 2005 طفرة غير مسبوقة في الأعداد التي حصدها الإخوان في انتخابات مجلس الشعب لأسباب ليس هنا موضع مناقشتها.
وفي المقابل كان السلفيون بتنوعاتهم يظهرون كاتجاه إسلامي زاهد في الصراع على السلطة وبعيد كل البعد عن الحياة السياسية بشكل عام الأمر الذي جنبهم الكثير من الصدام مع النظام بالرغم من التضييق الأمني الذي كان يشهد انفراجات في بعض الأحيان، مقتصرين على النشاط الدعوي والاجتماعي.
ويظهر ذلك من خلال تنظير المدرسة السلفية بالإسكندرية والتي يمكن تلخيصها في الخشية من تقديم تنازلات خاسرة، يقول ياسر برهامي في مقال نشر عام 2010 بعنوان “المشاركة السياسية وموازين القوى”: معطيات هذه اللعبة في ضوء موازين القوى المعاصرة عالميًّا وإقليميًّا وداخليًّا لا تسمح بالمشاركة إلا بالتنازل عن عقائد ومبادئ وقيم لا يرضي أبداً أحدٌ من أهل السنة أن يضحي بها في سبيل الحصول على كسب وقتي، أو وضع سياسي، أو إثبات الوجود على الساحة، فهذه المبادئ أغلى وأثمن من أن تُبَاع لإثبات موقف أو لإسماع صوت بطريقة عالية، ثم لا يترتب على هذه المواقف في دنيا الواقع شيء يذكر من الإصلاح المنشود والتطبيق الموعود لشرع الله.
من هذا المنطلق أيضا هاجم القيادي السلفي عبد المنعم الشحات جماعة الإخوان المسلمين في مقال له بعنوان : السلفيون والسياسة.. أسباب المقاطعة” ، رأى فيه أن الإخوان يدفعون ثمنـًا باهظـًا للدخول في لعبة “الديمقراطية”، وهي غير إسلامية في الأصل مما اضطرهم إلى تنازلات وصلت في حدتها إلى حد بوادر خلاف حاد حول انضمام الدكتور “عصام العريان” إلى مكتب الإرشاد؛ لميله إلى تقديم مزيد من التنازلات في سيل الاندماج في اللعبة الديمقراطية، بما في ذلك الاعتراف الضمني بـ”الوصاية الأمريكية” على التجربة الديمقراطية في مصر، وله في ذلك مقالات بعنوان: “الإخوان المسلمون وأمريكا: جدل المبادئ والمصالح حوار ضائع يبحث عن شريعة، وعن أجندة، وعن مستقبل!!”.
ويضيف الشحات: وبينما يفضل الإخوان الخوض مع كل هذه المخاطر من الهيمنة الأمريكية إلى التحالف مع الأحزاب العلمانية… ترى الدعوة السلفية أن الفاتورة التي يُطالب الإسلاميون بدفعها تمثل خصمًا من أحكام شرعية قطعية لا يمكن بحال قبولها، ومن ثمَّ أعرضنا عن الحياة السياسية بمفهومها المعاصر، وانصرفنا إلى الدعوة إلى إصلاح المجتمع: حكامًا ومحكومين، وإلى التزام الجميع بشرع الله، ومن الطبيعي لدعوة اختارت أن تنأى بنفسها عن المشاركة في النظام الديمقراطي لأسباب شرعية أن تنأى بنفسها عن مناقشة تفاصيله، وأن تستوي عندها فيه خياراته.
إلى أن يقول: إذن فالصمت هو الموقف الطبيعي تجاه هذه العملية السياسية؛ وهو صمت يحاول كل فريق أن يفسره لصالحه، وهو ما نحرص على نفيه نفيًا قاطعًا، وعلى تأكيد أن الصمت هو رفض للعملية الديمقراطية بأسرها، ورفض لفكرة الدولة المدنية التي تفصل الدين عن الدولة بل عن الحياة كلها وهى الفكرة التي فرضها علينا الغرب في الوقت الذي لا يخجل فيه من إعلان حرب صليبية على الدول الإسلامية المدنية”.
ولذا كان من الطبيعي جدا أن يكون لهم موقف سلبي من الثورة المصرية في بداياتها حتى وإن حاولوا لاحقاً التنصل منه.
موقف المدرسة السلفية بالإسكندرية يمكن وصفه بالتطور مع المعطيات أو التغير التدريجي حسب تسلسل الأحداث وهو ما يظهر برجماتية عالية لم يتم التبه إليها أو إدراكها إلا مع جنوح حزب النور الذراع السياسي للدعوة السلفية لاحقاً إلى تأييد انقلاب 3/7 على الرئيس المنتخب محمد مرسي وهم الذين لم يؤيدوا حملة تمرد لسحب الشرعية من الرئيس ولم يشاركوا في تظاهرات 30/60 التي أسفرت عن هذه النتائج فوقفوا في موقف المتفرج حتى شمو رياح التغيير فهرعوا إلى موجاتها.
ففي 2011 سجلوا في البداية كانت تاما للتظاهر وذلك قبل اندلاع ثورة الغضب المصرية بأيام عندما نشر موقع صوت السلف فتوى للمشرف العام عليه ياسر برهامي أحد أبرز رموز سلفية الإسكندرية يطالب الشباب فيها بعدم التظاهر قبل أن يتحول عقب أحداث الانفلات الأمني التي اجتاحت البلاد إلى الدعوة إلى المطالبة بحماية الممتلكات العامة والخاصة وفي مقدمتها ممتلكات المسيحيين والأجانب وتحريم الاعتداء عليها والقول بوجوب التصدي للبلطجية واللصوص، والمشاركة الميدانية في إنشاء اللجان الشعبية التي صارت المساجد مقارّ لعملها، كذلك الفتوى بتحريم الاستغلال ورفع الأسعار أثناء الثورة، والتحرك فعلياً لإيجاد حلول عملية لمواجهة هذا الاستغلال بتأليف مجموعات لشراء الخضروات والسلع الغذائية من مصادرها وإعادة بيعها بأسعار رخيصة للأهالي، لكن هذا التطور في خطاب التيار السلفي وممارساته، ظل بعيداً عن الدور السياسي أو المشاركة الفعلية في الثورة عبر التظاهر.
وهو ما يمكن أن نلمسه فعليا من خلال قراءتنا للبيان الثالث للدعوة السلفية بالإسكندرية أثناء الثورة والذي جاء فيه ما نصه” مع يَقيننا أنَّ التغييرَ الحقيقيَّ هو في إقامة دِين الله في الأرض وسياسةِ الدنيا به؛ إلا أنَّ إدراكَنا للواقع ومعرفتَنا بأنه لا بد أن تَسبق هذا خطواتٌ هي الآن في حَيِّز الممكِن والمتاح، وليست هي كُلَّ الـمَرْجُوِّ والمأمول؛ وسنلخصها في الآتي: تغيير الوضع السابق على الأحداث ضرورةٌ حتميةٌ؛ فلا يمكن أن يستمر مَن أَدَّى بالبلاد إلى حافة الهاوية -نسأل الله أن يعافيَنا منها-، ولكنَّ الكلامَ على كيفية حدوث ذلك إلى الأفضل لا إلى الأسوأ، ولا يمكن الاستمرارُ في دَفع البلاد إلى مَزيدٍ مِن الفوضى، وها نحن قد رأينا كيف أَدَّى غيابُ مرفق واحد -وهو الشرطة- إلى أنواع المفاسد و المخاوف والسَّلْب والنَّهْب؛ فكيف يطالِب البعضُ باستمرار ما يؤدي إلى الفوضى، وقد أُخرِجَ المجرمون مِن السجون، وتسلحوا بالأسلحة المسروقة؟! فكيف إذا زاد الأمرُ بفَرَاغِ باقي المرافق: مِن التجارة الداخلية، والتَّمْوِين، والتجارة الخارجية، واحتياطات البلاد مِن الغذاء والوقود، وغيرِها؟! وكيف إذا غابتْ مرافق الاقتصاد والبنوك -وبخاصة البنك المركزي- والمرتَّبات والمعاشات والمصانع والأنشطة التجارية -ولو لمدة وَجيزة-؟! كُلُّ هذه المفاسد وأضعافُها مِن التقاتُل وسَفك الدِّماء وانتهاكِ الحُرُمات سوف تكون هي النتيجة للتغيير الذي يَعقبه فَرَاغٌ، خاصةً مع غياب قيادةٍ للمظاهرات، وعَدَمِ تَوَحُّدِ الأحزاب السياسية؛ فمَن يَدفع البلادَ لمزيدٍ مِن الفوضى بحجة التغيير مع كُلِّ ما ذُكِرَ سيَتحمل نتائجَ ذلك كُلِّه أمام الله -عَزَّ وَجَلَّ-.وأضاف البيان: إنَّا نُرجِّح قبولَ إصلاحاتٍ عاجلة لإنقاذ الموقف، على أن تكون هناك فترةٌ انتقالية تمهيدًا لانتخاباتٍ حُرَّةٍ حقيقية مِن أجل تولية الأَكْفاء. ا.هـ
هرع السلفيون للانقلاب على أدبياتهم فنقضوها فكل ما نظر له برهامي والشحات قام بالتنظير ضده لاحقا وهو ما رصدته في دراسة نشرها مركز الدين والسياسية مطلع عام 2012م في كتاب بعنوان (السلفيون في مصر بعد الثورة).
وكنت وقتها أتعجب من تعجل التيارات السلفية في جني الأرباح السياسية وهي التي ظلت طوال عقود منفصلة انفصالا تاما عن الساحة، فهي كانت تعيش في عالمها الخاص ومحيطها المحصور في الأنشطة الدعوية والعمل الاجتماعي.
ومما قلته ذلك الحين في مقال نشر منصف 2011م بعنوان “السلفيون والسياسة .. ولكنكم قوم تستعجلون”: “.. وبعيدا عن التطرق للأسباب والمسببات والخلفيات الفقهية والمنهجية والأمنية التي سببت هذه الحالة من الانفصال والانقطاع والعزلة شبه التامة عن الحراك السياسي فضلا عن الانخراط في العمل السياسي أو البرلماني، فإننا يجب أن نشير إلى إيجابية هذه الخطوة والتي نأمل تؤتي ثمارا يانعة في المستقبل لما سيثري الساحة السياسية المصرية، سيما وأن أولى المعارك السياسية كانت نتيجتها إيجابية للتيار السلفي وهي تأييد السواد الأعظم من الشعب لمصري للاستفتاء على التعديلات الدستورية وهو ما نادى به السلفيين من أجل بقاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيس للتشريع.
لكن اللوم هذه المرة -إذا ما قدر الفشل- لن يطوله أحداً سوى السلفيين أنفسهم لأنهم برأيي ينجرفون نحو أخطاء الماضي والتي وقعت فيها الحركة الإسلامية عموما، وهذا الانجراف للأسف دافعه عدم حساب العواقب والانقياد في سيل العواطف الملتهبة والحماس واستعجال النتائج.
نتفهم مدى ظمأ السلفيين وتعطشهم للحريات وهم الذين سلبوها على مدى عقود لجريمة لم يرتكبوها سوى أنهم جزء من التيار الإسلامي الذي نحى فصيل منه منحى العنف في سبيل الانقلاب السياسي لتحكيم الشريعة، ونتفهم أيضا ما عانوه من هجمات شرسة ومتحاملة من قبل قطاع من الإعلام في الفترة الأخيرة، لكن هذا إن كان يعني شيئا فإنه يعني المزيد من الحذر والترقب والوحدة والخطوات المحسوبة المدروسة.
لكن هذا كله لا يعني قيام مجموعات منهم بخروقات تزيد من المخاوف وتعزز الفزع الموجود أصلا مثل القيام برفع أعلام دول عربية تشير أصابع الاتهام دائما حول صلة السلفيين بها وتلقيهم التمويل منها، أو هتاف بعضهم (العلماني عدو الله) وهم المتهمين دائما بتكفير المخالفين، وإن كنا ندرك أن السلفيين فصائل شتى وجماعات متفرقة لا يمكن السيطرة عليها جميعا فإن ذلك لا يعفي من المسؤولية بل يزيد منها ويضعها على عاتق العلماء والدعاة الكبار الذين يحظون بثقة الجميع واحترامهم كالشيخ محمد حسان ومشايخ الإسكندرية الدكتور ياسر برهامي ومحمد إسماعيل المقدم وعلماء أنصار السنة المحمدية وغيرهم والذين من المفترض أن يقوموا بدور توعوي أكبر أساسه تهدئة النفوس الثائرة، والتأكيد على ضرورة التمسك بما ينادون به من مبادئ لكن دون إثارة فزع المجتمع أو فتح المجال للمتربصين أو الجاهلين في الترويج للفزاعة، مع وضع وثيقة توافقية حول أولويات العمل السياسي في المرحلة القادمة والأخلاقيات التي يجب الظهور بها لتتناسب مع ما بنادون به من التأسي والاقتداء بالسلف الصالح، مع ضرورة الاستشارة السياسية لأهل التخصص (فاسألو أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، والأهم من ذلك هو النفس الطويل وعدم التعجل وصعود السلم السياسي من أسفله خطوة خطوة، وقديما قيل من استعجل الشئ قبل أوانه عوقب بحرمانه
وأخيرا: ما أود لفت الانتباه إليه هو أنه إذا كان التدرج وعدم استعجال النتائج في الدعوة إلى الله أمر مطلوب فهو من باب أولى ينسحب على مناحي الحياة الأخرى ومنها العمل السياسي فعن أبي عبد الله خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ؟ فقال : ” قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه، ما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون ” . رواه البخاري .
وإذا ظن السلفيون أن ما عانوه طيلة العقود الثلاثة السابقة من تعذيب وكبت وتنكيل وتضييق كافيا لهذا الاندفاع فقد اساؤوا التقدير، ولدينا في التجربتين الجزائرية والحمساوية الكثير من الدروس والعبر.”
كان هذا ما كتبته وقتها بعد أشهر يسيرة من رحيل الرئيس المخلوع حسني مبارك أوردته هنا كما هو بلا تعديل أو تدخل، ولسنا بصدد الحديث عن السلفيين وتحولاتهم الآن وإنما ما أردت الوصول إليه إلى أن الثورة التي انطلقت بدعوات شبابية عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبأعداد يسيرة في البداية رافعة شعار (عيش – حرية – عدالة اجتماعية)، بعيداً عن المشاركة المنظمة والفاعلة للأحزاب وقوى المعارضة وجماعة الإخوان المسلمين تم اختطافها وتحويلها عن مسارها إلى حالة الاستقطاب السياسي بين معسكرين (القوى المدنية بتنوعاتها والإسلام السياسي بفصائله)، وفي ظل هذه الحالة من الاحتقان التي بدأت مع غزوة الصناديق ولم تنتهي إلا مع ضياع مكتسبات الثورة في أحداث 30 يونيو لتتحول لمرحلة جديدة (احنا شعب وانتو شعب)، تم تغييب عنصري الثورة الأساسيين وهما شعارها الذي قامت من أجله (عيش – حرية – عدالة اجتماعية)، والشباب الذين هم شرارتها ووقودها ليحتل المشهد الكهول والمترددون والمتلونون والمتحولون والمثبطون وليقطفوا ثمارها آنذاك وهم الكافرون بها في البداية.