وجوه زائفة

عمر غازي

في المجتمعات التي تُقدّس الصورة وتخشى الصدق، يصبح المجامل لبقًا، والصامت حكيمًا، والمنافق “ابن ناس”، فلا يُكافأ الوضوح بل يُخشى، ولا يُحتفى بالحقيقة بل تُؤجل والمشكلة ليست في النفاق وحده، بل في قبوله كضرورة، بل كفضيلة اجتماعية.

أظهرت دراسة نشرتها جامعة الملك سعود عام 2022 أن 58% من المشاركين يرون أن المجاملة الاجتماعية جزء من “الذكاء الاجتماعي”، بينما أقر 36% أنهم قالوا عكس ما يشعرون به في مواقف عائلية أو مهنية حتى لا “يفسدوا الجو”، وكانت المفارقة أن معظمهم لا يشعر بالرضا بعد ذلك، لكنهم يعودون للفعل ذاته في المرة التالية.

النفاق لا يولد كذبة بل يبدأ كخوف، الخوف من أن نخسر مكانة، أو علاقة، أو حتى شعورًا مؤقتًا بالقبول، فنُضحّي بالصدق من أجل ألا نُحرج، ونُجامل من لا نحترم، ونبتسم لمن لا نثق به، ثم نُقنع أنفسنا أن هذه مرونة، أو أدب، أو حنكة، بينما هي في حقيقتها انكسارات صغيرة تتراكم في الروح.

أظهرت دراسة أجراها مركز “ترشيد” في البحرين عام 2021 أن الموظفين الذين يُجبرون على إظهار التقدير الزائف لرؤسائهم، يعانون من إرهاق نفسي بنسبة أعلى بـ27% من زملائهم الذين يتمتعون بحرية التعبير الصادق، وهو ما يتفق مع ما ذكرته دراسة صادرة عن جامعة الأزهر عام 2020، حيث أشارت إلى أن تكرار المجاملة في المحيطات الدينية والاجتماعية يؤدي إلى تطبيع الكذب، حتى يصعب على الفرد لاحقًا التمييز بين ما يراه فعلًا، وما يقوله فقط ليبقى محبوبًا.

في دراسة ميدانية أصدرتها جامعة اليرموك في الأردن عام 2021، أشار 49% من المشاركين إلى أنهم يشعرون بالضغط الاجتماعي للتصرف بعكس قناعاتهم الحقيقية في التجمعات العائلية والمناسبات العامة، بينما صرّح 31% من الشباب الجامعي أنهم يخشون التعبير عن آرائهم الدينية أو السياسية بصراحة لأنهم “لا يريدون الدخول في مشاكل”، وهي العبارة الأكثر تكرارًا بين فئة المشاركين دون سن الخامسة والعشرين.

في بعض البيوت، يُجبر الأبناء على التصنّع أمام الزوّار، وفي كثير من الاجتماعات، يُطلب من الموظف أن يمدح لا أن يُقيّم، وفي حفلات الزفاف، يُبارك الجميع بينما يتحدث بعضهم في الداخل عن فشل متوقع، وفي العزاء، تُقال جمل محفوظة لا تُقصد، وتُنسخ كلمات تعزية من رسائل قديمة دون إحساس.

لا أحد يطلب حربًا على المجاملات، ولا على اللباقة، لكن هل أصبحنا نُفرّق أصلًا بين اللباقة والنفاق؟، وهل نحسن الظن فعلًا، أم أننا نتواطأ على المجاملة لأننا لا نحتمل الرفض؟.

المجتمع الذي يبارك المجاملة على حساب الصراحة، سينشئ جيلاً لا يقول ما يؤمن به، بل ما يُتوقع منه
وسيصعد المنافق لأنه لا يُقلق أحدًا، بينما يُقصى الصادق لأنه يُربك الجميع، وسيتحوّل الكذب المُهذب إلى شرط بقاء، لا استثناء لحظة.

ويبقى السؤال:
هل يمكن أن تنهض أمة تبني صورتها على عكس حقيقتها؟
وهل يستطيع الإنسان أن ينام مرتاحًا… وهو مضطر كل يوم أن يلبس وجهًا ليس له؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *