بقلم (عمر غازي)
هذه التدوينة كتبتها في الذكرى الرابعة لثورة يناير (2015) ومازالت صالحة للنشر والقراءة ..
**
4 أعوام مضت منذ اندلاع شرارة الثورة في مصر مرت خلالها بلحظات أمل وتفاؤل توارى لأوقات كثيرة في بحور الطغيان ورياح الثورات المضادة.
انكسارات الثورة المصرية صدّرت اليأس لقطاع كبير من الشباب الذي آمن بها، لكن آخرين مازالوا يرون بزوغ شمس الحرية في الأفق مهما واراها ليل طويل غلفته أنفاق الاستبداد والقمع والظلم.
الثورة عمل شاق له حسابات مغايرة، وهي ليست ترفيهاً، أو نزهة، فما بني في عقود يمكن خلخلته بشكل مفاجئ، لكن ذلك لا يعني إمكانية هدمه أو إحلاله بسهولة، فإسقاط الأنظمة المستبدة أكثر الأعمال مشقة على الإطلاق بل هو أقرب إلى المستحيل، فمن يظن أنه قادر باعتصام 18 يوما في ميدان التحرير أن يسقط نظاما فاسدا عشش في كل مرافق الدولة وكون حوله آلاف الشبكات من المنتفعين والفاسدين ورمى جذوره في الإقليم أكثر من نصف قرن فهو واهم، وقبل ذلك غيب الوعي والعقل لدى قطاعات كبيرة من المواطنين وحتى ممن يطلق عليهم مثقفين، ولذا فمن يعتقد أن ذهاب رئيس أو قفل حزب أو تغيير الوجوه المتصدرة للمشهد هو الانتصار المأمول فهو إما حالم أوساذج وكان من المفترض عليه أن لا يغادر حزب الكنبة ليعد نفسه ثائرا مع الثوار.
الأعوام الأربعة المنصرمة تحمل لنا من الدروس والعبر الكثير والكثير مما يكفي لقيادتنا إلى تحيق آمالنا وتطلعاتنا إن نحن تأملناها جيدا واستفدنا منها، كما أن منطق التاريخ يسلينا، إذا علمنا على سبيل المثال أن أعظم الثورات وهي الثورة الفرنسية (1789 – 1799م)، والتي أثرت بشكل بالغ العمق على مستقبل أوروبا، بشكل عام، وليس فرنسا فحسب ، مرت فيها بلحظات مد وجذر وانكسارات طويلة في مسارها، ولم تحقق انتصارها سوى بعد عشر سنوات من اندلاع شراراتها، وعليه فإن مانعيشه الآن هو حالة طبيعية جدا لا تستدعي هذا الكم الكبير من الاحباط سيما إذا علمنا أن:
(1) متوسط عمر النزاعات الداخلية هو 102 شهرا أي حوالي 9 سنوات ، ولا نقول هذا الكلام على سبيل زرع اليأس وتصدير الإحباط أو الإفراط في التفاؤل ولكنها الحقيقة التي يجب في مقابتها ألا نستعجل الانتصار أو نسنسلم للهزيمة.
(2) خيول الحرية انفلتت من زمامها، ولا يمكن إيقافها، فالأصعب من تحريك الناس من مضاجعهم تكميم أفواههم، بعدما تنفسوا بصيصاً من نسيم الحرية، ولو تحت لهيب البنادق، بل هو المستحيل بعينه.
(3) لا ثورة إلا ويعقبها ثورة مضادة تصارعها أو تصرعها، فأعظم الثورات في التاريخ الماضي والمعاصر لم تجن ثمارها في يوم وليلة، ولم تنطفئ جذوتها في عشية أوضحاها.
(4) تساقط أوراق التوت أمر صحي لنجاح الثورة، فلن تننتصر الثورة مادام يحتمي بها الأدعياء، من ادعوا دعم للثورة من جهة ومن جهة أخرى من أدعى حماية الثورة وكان عدوها الأول وهي المؤسسة العسكرية والإعلاميين من أبواق العسكر .
(5) الاستقطاب والطائفية والمعارك الأيدلوجية وفزاعة الإرهاب هي أدوات يتم استدعائها دائما وأبدا لخدمة مصالح الأنظمة القمعية والديكتاتورية لصرف الجماهير عن الهدف الحقيقي وشغلها بمعارك جانبية ومفتعلة وتأجيج الصراعات فيما بينها من جهة ومن جهة أخرى إحداث شرخ وانقسام في الصفوف عبر انتهاج سياسة فرق تسد.
وعليه فإن ما يعنينا الآن هو ألا ندع درساً من دروس الحاضر إلا وأن نتعلم منه لنصنع الفارق فكما يقال الضربة التي لا تميتنا تزيدنا قوة وصلابة، ونحن نقول إن الدماء التي سفكت من شبابنا الأطهار تزيدنا عندا وإصراراً وإيمانا بالنصر.
ولعل من أهم الدروس التي يجب أن يعيها من يسعى لانتصار إرادة الثورة ما يلي:
1- لا حياد عن السلمية فالانتصار الإعجازي الذي يستطيع أن يجنيه المدني الثائر لن يكون أبداً بحمل السلاح ضد قوات الجيش والشرطة وبلطجية النظام الحاكم وشبيحته، وإنما في الصمود السلمي، والإصرار، والالتفات على هدف واحد، واليقين بالنصر، ولنا عبرة فيما حدث مع الثورة السورية منذ تحولها من المسار السلمي إلى الثورة المسلحة وانتهائها عند حرب الفصائل وسيطرة الجماعات المتطرفة على المشهد وهو ما خدم النظام في النهاية الذي كان يردد منذ الوهلة الأولى أمام مرأة العالم أنه يواجه مجموعات إرهابية وليس ثوارا، ولقد قال نابليون في حكمته المشهورة: “لا تفعل ما يريد عدوك أن تفعله.. وتجنب مجال المعركة الذي سبق له دراسته واستكشافه… لا تهاجم أبداً من المقدمة إذا كان بإمكانك الفوز بالالتفاف”.
2- ألوان الطيف: والمقصود بها أن العبرة بالنسيج الوطني ككل وليس بأعداد المؤيدين لفصيل ما، فقد أثببت الممارسة السياسية في المرحلة التي أعقبت الثورة والتجاذبات التي وقعت على هامش دستور 2012 أنه لا يمكن لفصيل أو اتجاه سياسي أو أيدلوجي أن ينفرد بصدارة المشهد لوحده مهما بلغت كتلته الصلبة من العدد والقوة والتأثير، ومهما كان الآخرون المهمش دورهم أقلية أو أطراف أضعف فإن إشراكهم في المشهد السياسي مهم لإحداث الاستقرار من جهة والتصدي لخصوم الثورة من جهة أخرى.
3- ضرورة الالتقاء على المتفق عليه فقط: في غمرة المكاسب السياسية تناست التيارات والأحزاب السياسية الشعار الرئيسي الذي قامت عليه الثورة واتحدت حوله الجموع وهو (عيش – حرية – عدالة اجتماعية) إلى معارك أخرى قائمة على الاستقطاب الأيديولوجي والصراعات العقدية والطائفية غالبا وصلت إلى حد المزايدات مما نتج عنه ضياع أهداف الثورة وبالتالي مكتسباتها، ولنا عبرة فيما أحدثه حزب النور وقطاعات أخرى من السلفيين أثناء دستور 2012 من خطاب تصعيدي حول مواد الدستور.
4- تنويع التكتيكات بما يخدم المرحلة ويؤدي إلى إرباك وإنهاك الخصم، وهو ما يتوجب التأكيد على أنه ليس التظاهر وحده أو الاعتصام أو الاضراب هو الشكل الوحيد والنهائي للثورة السلمية، فوسائل الاحتجاج السلمي أكثر من أن يمكن حصرها ودائما عامل الابتكار والمفاجأة هو المنتصر ولعلنا نذكر ما أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي من تأثير مفاجئ شكل صدمة لدى الأنظمة والتي طالما كانت تستهين بقوة العالم الافتراضي وتداعياته وانعكاساته على أرض الواقع.
5- العمل على إبقاء جذوة الأمل، وهو أمر لا يكون بالأماني والآمال والأحلام الوردية وإنما يقتضي أن يعمل كلٌ في محيطه من أجل إصلاح المفاهيم أولا وإزالة الإلتباس وبث الوعي لدى من حوله من أقارب وأصدقاء ومعارف، بعيدا عن الصدام والاصطدام، فقبل أن تزأر الميادين والشوارع لابد أن تتغلغل الثورة فينا على المستوى الاجتماعي وعبر وسائل التواصل، ومن خلال مقابلاتنا اليومية ينبغي ألا نكف عن إبداء آراءنا وانتقاد السياسات بشكل مباشر وغير مباشر وإثارة تساؤلات وفضول الغير ممن لا يعنيهم الحديث السياسي أو يؤثرون السلامة وهو مايعبر عنهم بحزب الكنبة، فإن لم نستطع جذبهم فعلى الأقل تحييدهم.
وختاما: نستطيع القول إن الربيع العربي لم يحل بعد، وأن ما طالنا لبعض الوقت من نسائمه، ما هي إلا إرهاصات لواقع اقترب، لكنه لا يحتاج سوى إلى الإيمان بأن ما تم تقديمه من تضحيات ودماء لا يمكن أن تضيع هباء منثورا، فهذا اليقين باستطاعته اقتيادنا إلى الوصول إلى أوسكار الحرية والديمقراطية المنشودة.